منذ ثانية واحدة
لا أرى تعارضا بين رفض حكم العسكر والانقلاب على الشرعية، وبين أن تتذرع الشرعية بتداعيات المحاولة الفاشلة للانقلاب على الديمقراطية.
أزعم أن تلك فكرة جوهرية فى تقييم الحاصل فى تركيا هذه الأيام منذ فشل المحاولة المذكورة فى الخامس عشر من شهر يوليو الحالى. إلا أن الالتزام بذلك الموقف يفترض أن الانحياز الأساسى هو لقيم الديمقراطية ومبدئها، وليس لفرد أو جماعة. وهو ما لم يحدث فى بعض الأصداء والتعليقات التى صدرت فى عدد من العواصم العربية، الأمر الذى كان أكثر وضوحا فى خطاب الإعلام المصرى الذى بدا شديد التأثر بالتجاذب الحاصل بين القاهرة وأنقرة طوال السنوات الثلاث الأخيرة. وبمقتضى ذلك ظل الرئيس أردوغان مصنفا فى معسكر الشر وغدت الإطاحة به وتقويض نظامه الهاجس المسيطر على مفردات ذلك الخطاب.
بسبب من ذلك فإن الانقلاب الذى حدث (ولم ينجح) عُد ثورة، والذين عارضوا المحاولة وأحبطوها اعتبروا «ميليشيات» حتى إذا كانوا من قادة الجيش وجهاز الشرطة والقوات الخاصة وأحزاب المعارضة. وحين فشل الانقلاب وألقى القبض على أغلب مدبريه وأركانه، فإن بعض المعلقين المصريين اعتبروا أن الرجل أصبح آيلا للسقوط وأن نظامه تضعضع، وأن ما جرى ليس نهاية المطاف، لأن انقلابا ثانيا سيحدث فى وقت قريب.
إذا نحينا جانبا المهاترات وسيطرة الأمنيات، وحاولنا أن نتجرد من الهوى فى قراءة تطورات الحدث التركى سنجد أن ما أقلق العقلاء والراشدين هو حملة الاعتقالات والإقصاءات التى تمت بدعوى تطهير مؤسسات الدولة وأجهزتها من أنصار ما سمى بالكيان الموازى. بعدما قيل إنه ضالع فى محاولة الانقلاب. وتحدثت التقارير عن انتشاره فى مختلف أعصاب الدولة ومؤسساتها الأمنية والعدلية.
وطبقا لما ذكره وزير الداخلية التركى فإن عدد الذين تم اعتقالهم كان فى حدود ١٢٠٠٠ شخص، هم خليط من ضباط الجيش وعناصر الشرطة والمدنيين. وما أثار الانتباه ليس فقط أن الرقم كبير نسبيا، وإنما أيضا أن إجراءات الاعتقال وما سمى بالتطهير تمت على وجه السرعة، الأمر الذى أثار الشك فى أن قوائم الأسماء كانت معدة من قبل لكنها تتحين فرصة التنفيذ.
والأمر كذلك فإن الرصد مهم والشكوك مشروعة والتساؤلات واجبة والتحذير أوجب، إلا أن التعجل فى إصدار الأحكام ليس من الموضوعية فى شىء. ذلك أن محاولة الانقلاب كانت أكبر بكثير مما تصورناه فى البداية، حين أدركنا أنه تم إفشاله بسرعة وظننا أنه كان تمردا متعجلا تورطت فيه بعض عناصر القوات المسلحة. لكن المعلومات التى تكشفت لاحقا بينت أن الإعداد كان محكما وواسع النطاق، بل كان أكثر تعقيدا مما بدا فى الساعات الأولى. (اشترك فى العملية نحو ٢٠ جنرالا بينهم قيادات الجيشين الثانى والثالث إضافة إلى قواعد للطيران ومشاة البحرية). الذى لا يقل عن ذلك أهمية وخطورة أنه رغم مضى أسبوع على المحاولة فالتصريحات الرسمية التى أكدت فشل المحاولة لم تطمئن إلى أنه تم القضاء عليه تماما. وهو ما عبرت عنه تصريحات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، وما تجلى فى مطالبة الجماهير بأن تبقى على تظاهراتها ويقظتها فى الشارع طوال الأسبوع.
حين دبر الانقلابيون اغتيال أردوغان فى الفندق الذى كان يقضى فيه عطلة نهاية الأسبوع مع أسرته، وحين لاحقوا طائرته فى الجو لإسقاطها، وحين قصفوا مقر البرلمان من الجو سبع مرات، واستهدفوا مقر المخابرات العامة واحتجزوا رئيس الأركان، وفى حين نصبوا كمينا نجا منه وزير الداخلية فى حين قتلوا مسئول مكافحة الإرهاب، وحين أطلقوا النيران على المتظاهرين.. حين لجأوا إلى كل ذلك جاز أن توصف المحاولة ضمن الممارسات الأكثر عنفا فى الانقلابات التى شهدتها تركيا.
حين يحدث ذلك فإن المسارعة إلى إجهاض المحاولة وإعلان الطوارئ تصبح أمرا مفهوما. وهو ما عبرت عنه حين سئلت فى الموضوع، إذ انتقدت الذين أيدوا إجراءات الحكومة التركية بغير تحفظ. واشترطت للقبول المؤقت بما يجرى خمسة شروط هى: ١ــ ألا تتخذ إجراءات بحق أى أحد إلا بعد تحقيق نزيه. ٢ــ ألا يتعرض المتهمون لأية انتهاكات تمس حقوقهم الأساسية. ٣ــ أن تعرض الأدلة على الملأ. ٤ــ أن يتم الالتزام بمدة الطوارئ التى حددت بثلاثة أشهر. ٥ــ أن يخضع الجميع لمحاكمة عادلة يتوافر لهم فيها حق الدفاع واستدعاء الشهود.
من المفارقات أن الذين تسرعوا فى إصدار الحكم على ممارسات الحكومة فى تركيا بغير حذر لم تكن لديهم أحكامهم المسبقة فحسب، وإنما هم أيضا يعيشون فى ظل أنظمة هى فى حقيقة الأمر بيوت من زجاج، ولا يستطيع أحد منهم أن يطالب بتوفير شرط واحد من تلك التى أشرت إليها. ذلك أنهم لم ينشغلوا لا بالديمقراطية ولا بمستقبل الشعب التركى وظلوا أسرى الكيد وتصفية الحسابات والمرارات الدفينة.
أضف تعليقك