قبل سنوات، كان الدكتور "أحمد زويل" موضوع حديث بيني وبين أكاديمي مصري يعمل في إحدى الجامعات الغربية، والذي "وضع يده على الجرح"، وشخص حالته. وكثير من تصرفاته بدت غير مفهومة لي، قبل هذا التشخيص!
فزويل الذي حصل على أهم جائزة عالمية، هي جائزة نوبل، يحرص على أن يبدو قريباً من أهل الحكم في مصر، ويتقرب لنظام مبارك على استبداده وضحالته بالنوافل، ويدلي بشهادات في حق هذا النظام، لمجرد أن يكون "في الصورة"، فلا هو يطمح أن يعين في منصب سياسي، ولا قيمته العلمية ينقصها أن يتبناه نظام متهاو وغارق في الفساد.
"زويل" عندما كان يهبط مصر، كان يتخلى عن وقار العالم ليبدو في هيئة من يتم "إحياء الأفراح" بهم، وهي شخصية تختلف عن "مطرب الفرح"، أو القائم بالعزف الموسيقي؛ إنها نفسها الشخصية التي لا تكتمل مراسم الأفراح الشعبية إلا بهم، وبغض النظر عن طبيعة هذا الفرح المقام، وسواء كان إحياء الفرح يتم بـ "حلقة ذكر" أو براقصة شعبية، أو بالطبل البلدي، فحضوره لازم لاستكمال الشكل!
وهذا النضال من أجل الحضور، مرده إلى طبيعة "زويل" الشخصية. وأتذكر المقال الذي كتبه "فهمي هويدي"، عندما تم الإعلان عن فوز الدكتور زويل بجائزة نوبل، والذي حاول خلاله أن يتعرف على شخصية الفائز، فذكر أنه اتصل بمكتب جريدة "الأهرام" بالإسكندرية لمده بالمعلومات المتوفرة لديهم عنه؛ لأنه ينزل إليها عندما يأتي في إجازته السنوية، فكان أن قالوا له هناك، إنه بمجرد وصوله فإنه لا يهتم إلا بالاتصال بأحد المراسلين في المكتب ليجري حواراً معه، بعيداً عن العلم والأبحاث، وباعتباره "نجم شباك"!
بعد حصوله على "جائزة نوبل"، كان "زويل" قد ضرب صداقة مع صديقنا "على نويشي" الصحفي بـ"الأهرام"، وبمجرد وصوله للقاهرة، كان يتصل بـ"نويشي"، لكن في إحدى المرات كان "أحمد المسلماني" بمركز الدراسات بـ"الأهرام" قد طلب من "نويشي"، وألح في الطلب أن يعرفه على "زويل"، ولأن صاحبنا كان يستعد للزواج ولم يكن متفرغاً لجلسات "زويل"، فقد عرفه على "المسلماني" الذي أعلن بعد هذا اللقاء أنه المستشار الصحفي للحائز على "جائزة نوبل"، فأبو سفيان يحب الفخر، وتوقف "أحمد زويل" بعدها تماماً عن الاتصال بـ "على نويشي"!، فالمسلماني كان يكتب عنه إذا قام وإذا نام، وإذا عسعس وإذا تنفس، وعلى طريقة: "كوهين ينعي ابنه ويصلح ساعات"، فقد كان يكتب عن نفسه، من زاوية الكتابة عن عالم بحجم الدكتور "أحمد زويل".
ذات مرة كتب "المسلماني" كيف أنه كان يسير مع "زويل" في أحد شوارع واشنطن في طريقهما لمقر إحدى الصحف الأمريكية، وكان "زويل" يتحدث في "مسألة علمية"، ويقول "المسلماني" متواضعا إنه كان يجتهد في فهمها ويناقشه حولها رغم أن هذه "المسائل العلمية" ليست من تخصصه، وإذ فجأة يتوقف "زويل" وينظر إلى "المسلماني" بانبهار، مشيداً بمستوى خريجي كلية السياسية والاقتصاد التي تخرج فيها "المسلماني"، بمناسبة تجاوبه في الحديث في هذه "المسألة العلمية"، وقال "زويل" لصاحبه "المسلماني"، إن هذه الكلية لا تقل عن أي كلية في الولايات المتحدة الأمريكية!
وهذا هو "بيت القصيد"، فأحمد زويل لا يتطرق للحديث في أي قضية علمية، ومن يكتبون عنه يلخصون حديثه معهم بأنه تطرق "لمسألة علمية" دون توضيح، فقد كان عندما يستضاف في وسائل الإعلام يتحدث باعتباره "نجما"، لا بحسبانه "عالما"، والحديث يدور حول نشأته، وأغنياته المفضلة، والأكلات المصرية التي يفتقدها في بلاد العم سام، ولم نسمع أنه تحدث في تخصصه العلمي الدقيق، أو اهتم بإلقاء محاضرة على طلاب قسم الكيمياء في كلية العلوم التي تخرج فيها!
إنه "النجم أحمد زويل" الذي لا تمثل له مصر إلا منبراً لتحقيق نجوميته بالشكل الذي يفضل، وكان مشغولاً بالحضور الإعلامي فيها حد الشغف، ووجد وسائل الإعلام التي تحقق له هذا. ولم يقدم اقتراحاً للاستفادة من علمه، أو ليطرح رؤية لتطوير بنيتها العلمية، ولم يزر مركز البحوث بالدقي وفيه من العلماء الذين تنقصهم الإمكانيات، فيجتبي منهم ويعمل على توفير ما يلزمهم في سبيل تحقيق التقدم العلمي في مصر!
لقد كان مهموماً بأضواء مصر لا بمعاملها، وبحياة النجوم لا بسلوك العباد في محراب العلم، فكان علمه لأمريكا ولإسرائيل، أما في مصر فعندما وجد اهتماماً من أهل الحكم به، فقد رأى أن يستغل هذا في تقديم نفسه باعتباره "المستثمر أحمد زويل" في مجال التعليم وفق السياسة المصرية القائمة التي جعلت من التعليم سلعة أو تجارة، فكان أن استغل السلطة في منحه جامعة النيل، وعندما صدر حكم قضائي ضده بعد الثورة، بطرده من الجامعة، استغل حاجة الانقلاب العسكري له في منحه ترخيصا جديدا لجامعة زويل، ونذكر كيف استخدم الأمن في سحل طلاب جامعة النيل، الذين وجدوا في الثورة أداة لعودة الحقوق لأصحابها.
لقد تصرف كأي رجل أعمال من الذين ينتمون للرأسمالية الطفيلية، عندما يكون لديهم استعداد لاستخدام السلطة في سحق كل من يعترض طريقهم!
إن جامعة زويل ليست أكثر من مشروع استثماري، مثل غيرها من الجامعات الخاصة، الموجودة في مصر، ولم يكن الهدف هو بناء قاعدة علمية مختلفة، أو تخريج علماء مصريين تستفيد منهم مصر حاضراً، ومستقبلاً!
ولم يكن كل هذا يشغلني، إنما شغلني في شخصيته التقرب للسلطة، أي سلطة، وهو بعد ذلك تقرب لحكم الدكتور محمد مرسي، ثم لحكم عبد الفتاح السيسي بعد الانقلاب!
لقد شخص الأكاديمي المصري بإحدى الجامعات الغربية، (وهو حي يرزق وما منعني من ذكر اسمه إلا أن المجالس أمانات) بأن مشكلة "زويل" أنه برغم ما وصل إليه من سمعة دولية، ومن حضور عالمي، إلا أنه حريص على أن يعلم "عمدة بلدهم" أنه صار شخصية مرموقة، وهذا لا يتأتى إلا من معرفة رئيس مباحث قسم الشرطة به. و"العمدة" يمثله المحيط الأسري والعائلي لـ"زويل"، كما أن رئيس المباحث تمثله السلطة ورأسها، سواء مبارك، أو أي حاكم آخر!
عندما تعرف طبائع البشر، فإن كثيراً من التصرفات تكون واضحة، وفي الفترة التي تولى فيها اللواء زكي بدر منصب وزير الداخلية، وتسبب في الكثير من المشكلات والحرج لنظام مبارك، كنت مشغولاً بمعرفة أسباب هذا الرضوخ من قبل المخلوع، والذي لم يقم بعزله إلا مضطراً بعد أزمة كبرى.
لقد فسر لي أحد المتابعين للأمر أسباب ذلك. فقد كان "زكي بدر" مديراً لأمن المنوفية، التي يتبعها "كفر مصيلحة" مسقط رأس مبارك، وإذا كان هذا وهو يشغل قائداً للقوات الجوية، فقد كانت المواقع العسكرية لا تقدر في الريف ولا تدرك أهميتها، إلا بقدر الاهتمام الذي تمنحه السلطة المحلية لمن يشغلونها، ممثلة في الشرطة، وكان زكي بدر يزور مبارك في بيته بكفر مصيلحة فتمثل زيارته تأكيداً على أهميته!
ما علينا، فللناس فيما يعشقون مذاهب، وتكمن مشكلة "زويل" في أنه خرج من محرابه، وأراد أن يكون "في الصورة"، وعندما قامت الثورة، فكر في الترشح لمنصب الرئيس، لكن المجلس العسكري احتاط لهذا من خلال وضع الكثير من المحاذير، من بينها النص الخاص بجنسية الزوجة، وعدم الجمع بين الجنسية المصرية وغيرها، وكان واضحاً أن هذه الشروط تستهدف منعه من الترشح، لكنه رضي بالدور نفسه الذي كان يقوم به في عهد مبارك، فالمهم أن يكون "في الصورة".
وفي المقابل، بدت القوى السياسية متسامحة مع "حالة أحمد زويل"، ومن باب أن "الصلعاء تتباهى بشعر ابنة أختها" فهو مصري، وقد حصل على اعتراف دولي بحصوله على "جائزة نوبل" وإن لم يستفد المصريون من عمله، فيكفي أن مصرياً مثلهم حصل على هذه الجائزة، ورغم الحديث المعلوم عن علاقاته مع الإسرائيليين وتكريمه في الكنيست، فإن هذا الجانب كان مسكوتاً عنه، بل لم يقف كثيرون أمام تقلباته السياسية من تأييد مبارك، إلى تأييد المجلس العسكري، إلى تأييد محمد مرسي، إلى أن وصل به الحال إلى أن يؤيد انقلابا عسكرياً ويشيد به وبإنجازاته التي لا يراها المصريون!
وكان يمكن أن يظل هذا الجانب مسكوتا عنه لولا موقف "أهل الأعراف"، الذين استهدفوا أن يحوز على الإجماع في التأييد لتمرير أنفسهم، باعتبارهم و"زويل" من أصحاب المراكز القانونية المتماثلة، فهو وهم أيدوا حكماً عسكرياً، وهو وهم لم يدينوا القتل والجرائم التي قام بها هذا الانقلاب، ولم تكن المذابح سبباً في إعلان براءاتهم من هذا الحكم!
لا أقصد المعنى الديني بأهل الأعراف، الذين سيقفون ما بين الجنة والنار في يوم القيامة، لتساوي حسناتهم مع سيئاتهم، قبل أن يؤذن لهم بدخول الجنة، فأهل الأعراف هنا ليسوا من المؤيدين التقليديين للسيسي، كما أنهم ليسوا من أنصار مبارك، والدولة العميقة ليست متحمسة لإقامة "زفة" لزويل، ولكن "أهل الأعراف" الذين خرجوا من "مولد الانقلاب" بلا حمص، احتشدوا لإدانة أي نقد لزويل، مرة بدوافع إنسانية ولحرمة الموت، ومرة بدوافع احترامهم للعلم والعلماء، وهم في هذه وتلك يكذبون كما يتنفسون!
فليس لمن شهدوا مذابح "رابعة" و"النهضة" و"المنصة" و"مسجد الفتح" و"الحرس الجمهوري"، ولم يدينوا ما جرى، أن يتحدثوا عن "الإنسانية" و"حرمة الموت"، وليس لمن رأوا العلماء يعتقلون ويقتلون في السجون فأيدوا الانقلاب الذي سحل الحاصلين على الماجستير والدكتوراه في الشوارع، أن يتكلموا الآن عن العلم!
إن "أهل الأعراف" يرون في تعويم "زويل" تعويماً لهم، فاحتشدوا لتعويمه فغرق بهم.
فليس أمامكم إلا توبة نصوحا!
أضف تعليقك