• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانيتين

جاء الطوفان البشري، الذي اختتم به الشعب التركي مظاهراته ضد محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة، ليمثل سبباً إضافياً في حملة الهجوم على الشعب المصري، من قبل من يريدون الدفاع عن الفاشلين في مصر، وحمايتهم من أي مساءلة، عند المقارنة بين إفشال الانقلاب في تركيا، ونجاحه في أم الدنيا!

 

لا يخفى على متابع، أن الفشل جرى تعليقه منذ البداية في رقبة الشعب المصري، الذي ينقصه الوعي، على العكس من الشعب التركي. فالمصريون خذلوا الشرعية، في حين انتصر لها الأتراك، والذين واجهوا الدبابة، في حين أن المصريين الذين جبلوا على الخنوع انحازوا لقائد الانقلاب، وخرجوا للشوارع يرقصون ابتهاجاً به، ويشمتون في الدماء التي سالت في "رابعة" وأخواتها. وهناك من تمادى إلى حد إعلانه أن المصريين لم يكونوا يستحقون رئيسا كالدكتور محمد مرسي، وعليه فإنهم يستحقون ما يجري لهم على يد قائد الانقلاب، وزيادة!

 

وهذه المقارنة، تنتهي بالمرء إلى أن يتحول الشعب التركي في وجدانه إلى "أسطورة"، تضاف إلى الأساطير والموروثات المصرية، وإذا أحب المصريون أحداً سجلوا لها كرامات ونشروها، حتى صارت من المسلمات، وهي كرامات ترتفع بصاحبها ليكون فوق البشر، وتدفع للنظر إليه على أنه أكثر من إنسان، حتى صرت مشفقاً على هؤلاء إذا سافروا لتركيا واستقلوا سيارات الأجرة، ووجدوا أن السائق التركي مثلاً قد سلك طريقاً بعيداً مستغلاً "جهل الغريب" من أجل أن يحصل على المزيد من النقود، أظن أن الصدمة ستكون بحجم من صدق الأساطير المصرية عن المرأة السورية، وبعد الزواج اكتشف أنها لا تضيء ليلاً، وليست مصدراً للنور عندما تنقطع الكهرباء!

 

الفارق بين الشعبين: المصري والتركي، هي في درجة الوعي بخطورة حكم العسكر، والأتراك مروا بحكم العسكر ورأوا ويلاته وعاشوا معه لعقود في حالة من الفقر المدقع، وعاصروا تجربة الحكم المدني ونجاحاته الاقتصادية، ولم يكن عموم الشعب التركي مع أردوغان، لكنه كان في الجملة ضد حكم العسكر، ولهذا فعندما علم الأتراك أن انقلابا عسكرياً قد وقع، تحرك كل فرد بفعل الغريزة لتأمين حياته وحياة أسرته وهذا يفسر اندفاعهم في اتجاه ماكينات صرف النقود، وكأن البلاد وقعت في قبضة قطاع الطرق!

 

وكان يمكن أن يتحول الأمر إلى فوضى من أجل الخلاص الفردي، بما يفيد الانقلابيين، وهنا يأتي دور القائد الذي افتقدناه في مصر، وإذا كان الأمر مرده إلى عملية اختطاف الرئيس محمد مرسي، فإن حكومته بربطة المعلم كانت خارج السجن، كما أن قيادات حزبه وجماعته لم يجر اختطافهم معه!

 

لقد خاطب الرئيس أردوغان الشعب، في رسالة محددة واضحة، وطلب منه طلباً لا يحتمل التأويل؛ وهو أن يخرج لمواجهة الانقلاب، وكان الشعب هو الذي حسم الموقف وليس قوات الشرطة، فهذه القوات تشجعت بوجود الشعب، وانتقلت من المناوشات المحدودة إلى المواجهات المفتوحة مع الانقلابيين، عندما حضرت الجماهير، وزحفت للشوارع، وإلى مطار "أتاتورك" لتحرره من قبضة الجناة!

 

قرأت لمن يبرر للهزيمة في مصر بالمقارنة بين الجيشين المصري والتركي، فالأول نفذ أوامر قائده بالضرب "في المليان"، والثاني لم يفعل، وهذا ليس صحيحاً، فليس كل من صدرت لهم الأوامر بالقتل قاموا بتنفيذها، كما أن الجيش التركي الذي خرج منقلباً على الشرعية قتل وقام بتفجير عدد من مقار الدولة، وإذا كانت الحالة التركية قد كشفت عن وجود ضباط في الجيش ضد الانقلاب، لم يجر الاعتماد عليهم في البداية بالمناسبة، فإن قراراً عاطفيا صدر في مصر ممن تزعموا الموقف، بعدم الاتصال بأي "عسكري" يكون رافضاً للانقلاب حفاظاً على وحدة الجيش!

 

ما علينا، فالجيوش ليست موضوعنا، فالمقارنة الأبرز كانت بين الشعبين، وعليه استحق الشعب المصري لتقصيره في الدفاع عن الشرعية، إلى تبكيت كثيرين، أرادوا إعفاء قادتهم من المسؤولية، بحديث الطوفان البشري في تركيا، وقرأت لمن "أخذته الجلالة" فامتدح الشعب التركي، الذي لم يتحرش فيه رجل بامرأة في المظاهرات اليومية، التي توجت بالطوفان البشري في واحد وثلاثين ميداناً باتساع الدولة التركية، وذلك لتأكيد التمييز بين الشعبين، فكان خليقاً بهذا الشعب وهو على هذه الدرجة من السمو الأخلاقي أن يُسقط الانقلاب، و"الكلام لك يا جارة" كما يقول المثل الشعبي!

 

ولو كان الكاتب ممن شهدوا أيام ثورة يناير في "ميدان التحرير"، لأدهشه عدم وقوع حالة تحرش واحدة، رغم الزحام الشديد، بل كنت أتحرك في انسيابية داخل هذا الحضور البشري الضخم، وإذا كنت لم أحضر إلى "ميدان رابعة" بعد الانقلاب العسكري، فقد استمعت إلى إجماع من أوتاده بأن البشر فيه كانت أخلاقهم ملائكية!

 

إنها الأسطورة التي يراد صنعها للشعب التركي، من أجل إعفاء القادة من مسؤولية التقصير، وهي دعاية توحي كما لو كان الطوفان البشري لم تعرفه مصر من ناحية، وكما لو أن الشعب التركي قد خرج عن بكرة أبيه في حين أن المصريين لم يكونوا على قلب رجل واحد.

 

الشاهد، أن الكيان الموازي في تركيا، لم يكن تعبيراً عن شريحة في السلطة ومكوناتها فقط، فيمثل الكيان مواطنين لهم حضورهم بين الشعب، وإن كانوا لم يخرجوا كما خرج مؤيدو الانقلاب في مصر للشوارع يؤازرون الانقلاب، فأولاً، لأن الانقلاب في مصر قد نجح في الاستيلاء على السلطة وتغييب الرئيس، وثانيا، لأن الشعب الرافض لحكم العسكر قد خرج للمواجهة، وليس للتظاهر، ولو كان الخروج رخواً كما جرى في مصر، لربما وجدنا تركيات يرقصن في الشوارع على إيقاع الانقلاب العسكري!

 

أعلم أن موقف بعض المصريين في شماتتهم في الدم، ورقصهم على أشلاء شهداء المجازر التي ارتكبها الانقلاب، قد أرق وجدان البعض من رافضي الانقلاب، ومجموعة من هؤلاء شكلت ما سمي بظاهرة المواطنين الشرفاء، وهم "الشبيحة" الذين استعانت بهم قوات الأمن في الاعتداء على المظاهرات السلمية، وهناك من بدت العداوة من أفواههم، وسط أجواء حالة الانقسام المجتمعي، التي عززت سلطة الانقلاب من وجودها وفق قاعدة فرق تسد، ومن هؤلاء من لم "يدس" له الحكم الإخواني على طرف، ومع ذلك خرج يدين الإخوان ويهاجمهم، وهناك قصص تروى في هذا الجانب تثير الدهشة وتطرح سؤالا: لماذا كل هذا الحقد؟!

 

وهو سؤال يحتاج للإجابة عليه، إلى دراسة سيكولوجية للوقوف على الدوافع من غير التعالي بالقول إنه شعب لا يستحق، وطوال الوقت لا يمثل لي هؤلاء مشكلة حتى والبعض يتخوف من استمرار حالة الانقسام ومخاطرها إذا سقط الانقلاب، ودائما أضرب المثل بهؤلاء الذين كانوا يدافعون عن مبارك في أيام الثورة، وكيف أنه "والدنا" ولا يجوز إهانته بهذا الشكل، وقد سبقونا لميدان التحرير للاحتفال بسقوطه عندما تنحى!

 

بيد أن الشعب في مجمله، لم ينحز فقط لقضية الشرعية، وإنما انحاز للتيار الإسلامي بعد الثورة، باعتباره التيار الذي تعرض للاضطهاد في عهد مبارك، وفي كل الاستحقاقات الانتخابية قام بالتصويت لصالحه، ومثل بهذا الانحياز أزمة لأحزاب الأقلية التي أيقنت أن الاحتكام للجماهير ليس في مصلحتها فكان الاحتكام للدبابة، وفي ظني أن عبد الفتاح السيسي لو أيقن فعلا أن الإرادة الشعبية معه، لدعا لانتخابات جادة، لا تستثني أحداً، لكن إيمانه أنه خارج على هذه الإرادة فإنه يعمل على مواجهة خصومه بقوة السلاح!

 

الخلاف بين القوم والسيسي، أن الأخير يعلم أن الشعب في غالبيته ليس معه ومع ذلك يدعي أنه جاء بإرادته، في حين أن من جاءوا بإرادة الشعب يقومون بلعنه قبل الأكل وبعده، ويتهمونه بالخنوع ويرمونه بالجُبن؛ حتى يعيشون اللحظة، لحظة الشعور بالقهر، ونكران الجميل، وحتى يعفون قياداتهم من مسؤولية الفشل، في الحفاظ على الشرعية، والتي هي قرار الشعب، ولا أعرف كيف لمن يتهمون الشعب المصري بكل نقيصة، أن يدعوا أنهم ينحازون لشرعية الرئيس وكأنها منحت له من الشعب التركي.

 

إن الطوفان البشري الذي حدث في تركيا شاهدنا مثله أكثر من مرة في مصر، فالأزمة لم تكن في الشعب المصري!

أضف تعليقك