كالعادة هلل الرسميون لإعلان خبراء صندوق النقد الدولى الموافقة على إقراض مصر 12 مليار دولار، حتى تصور البعض أن مشاكل الاقتصاد المصرى سيتم حلها بمجرد إعلان الاتفاق، لنسير فى نفس مسار تخدير الجمهور المتبع منذ ثلاث سنوات، من خلال وعود براقة تكررت مع المؤتمر الاقتصادى والتفريعة السابعة لقناة السويس وزيارات مسؤلى الخليج وقرض البنك الدولى وغيرها، تبشر بقرب انتهاء معاناة الناس والتحول لمرحلة جنى الثمار.
ثم يتفاجأ الجمهور فى كل مرة بأنها كانت سراب وبفرض المزيد من الأعباء، سواء بخفض الدعم أو رفع أسعار الخدمات الحكومية، وارتفاع أسعار السلع الغذائية، وتزايد سعر صرف الدولار بالسوق الموازية بما له من انعكاسات على تكلفة الواردات ومدخلات الإنتاج.
وتراجعت الثقة كثيرا فى الوعود الرسمية أيا كان مصدرها، سواء من رأس النظام ورئيس الوزراء ومحافظ البنك المركزى والوزراء، فى ضوء التجرية العملية الأليمة لما بعد وعود عديدة.
ومن حق الناس أن يعرفوا أن قرض الصندوق هو مجرد مسكن وقتى لا يحل مشاكلنا الاقتصادية، وإنما يطيل حياة النظام الحاكم لبعض الوقت حتى تتآكل آثار القرض، مما يدفع النظام للبحث عن مخرج وقتى آخر، لكسب وقت إضافى، دون الاستطاعة للتصدى للمشاكل الجوهرية للاقتصاد وزيادة الموارد، وهو أمر أصبح مؤكدا فى ضوء التجارب السابقة، وخبرات المسؤلين عن الملف الاقتصادى القاصرة.
الاحتياجات عدة أضعاف القرض
وبشكل مبسط، تحتاج مصر لحوالى 60 مليار دولار لوارداتها السلعية السنوية، بخلاف احتياجات السفر للخارج سواء للسياحة أو للعلاج أو للدراسة، وحوالى 8 مليار دولار لأقساط وفوائد ديونها الخارجية خلال عام، والجهاز المصرفى لديه عجز فى النقد الأجنبى لأكثر من 9 مليار دولار حتى مايو الماضى، وعجز الموازنة يزيد عن 36 مليار دولار للعام الحالى.. فماذا ستفعل المليارات الأربعة المتوقعة من صندوق النقد الدولى إزاء تلك الاحتياجات من النقد الأجنبى؟ سيقول إعلام النظام إن هناك سندات سيتم طرحها يمكن أن تجلب 3 مليار دولار، وقرض للبنك الدولى بحوالى 1 مليار دولار، وقرض من بنك التنمية الأفريقى بنحو نصف مليار دولار.
وها هو صندوق النقد قد دعا شركاء مصر لمساعدتها، وهو ما يمكن ترجمته بودائع أو قروض من السعودية والإمارات بنحو مليار دولار من كلا منهما، وهكذا يمكن أن تصل الحصيلة السنوية لكل ما سبق - فى حالة تحققه - 9.5 مليار دولار، أى ما يوازى احتياجات الاستيراد السلعى لشهر ونصف فقط.
وحتى لا تأخذنا نشوة الاتفاق على قرض الصندوق الذى مازال يتطلب موافقة مجلس مديرى الصندوق عليه، علينا تذكر أن نفس الهوجة الإعلامية قد تمت عند موافقة مجلس إدارة البنك الدولى على إقراض مصر فى ديسمبر الماضى، وصدور قرار جمهورى بالموافقة على القرض، وتصريح وزيرة التعاون الدولى وقتها بوصول جزء منه، إلا أن الحقيقة أنه لم يصل منه شىء حتى كتابة هذه السطور.
والأهم من قيمة قرض الصندوق المشروط.. ماذا سنفعل به؟، الأغلب أنه سيتوجه لخفض عجز الموازنة حسبما أفاد خبراء الصندوق والرسميون المصريون، وليس لأغراض استثمارية مما يقلل من الاستفادة المجتمعية منه.
محافظ البنك المركزى خسر الرهان
والرهان على قرض الصندوق بأنه يوفر تمويل ويتيح الحصول على شهادة ثقة دولية، يترتب عليها توافد الاستثمار الأجنبى غير المباشر لشراء أذون وسندات الخزانة المصرية، بما يتيح مليارات الدولارات التى يتم إضافتها للاحتياطى من العملات الأجنبية.
وهذا الرهان سبق أن أعلنه محافظ البنك المركزى عقب خفضه لسعر صرف الجنيه المصرى فى مارس الماضى، وفشل رهانه ولم يحقق مبيعات سوى بعشر ملايين دولار فقط، رغم ضمان بنكين حكومين لهؤلاء الأجانب سعر صرف للجنيه عند الخروج يماثل سعر الصرف عند دخولهم.
وينسى المحافظ ورفاقه من الرسميين أن هناك عوامل عديدة طاردة للاستثمار الأجنبى بنوعيه، أبرزها الاستقرار الأمنى والسياسى، والبيروقراطية والفساد والاحتكار وحوادث الطرق ونقص الأراضى الصناعية وارتفاع تكلفة التمويل وغيرها.
كما أن أسلوب الإدارة الحكومية للملف الاقتصادى سوف تصطدم مع روشتة الصندوق المصاحبة للقرض، والتى سيتم منحه بشكل نصف سنوى بناء على تنفيذ مطالبه، فسوف تظل قضية توغل الجيش بالنشاط الاقتصادى مثار خلاف، وسيكون صعبا على تلك الجهات التنازل عن مكاسبها الاقتصادية الاحتكارية أحيانا.
وسيظل حصول الحكومة على النصيب الأكبر من أموال البنوك مثار خلاف، حيث لا بديل أمام الحكومة لسد عجز الموازنة وتوفير أقساط الديون وفوائدها سوى البنوك، كذلك مطالبة الصندق بالإسراع فى خفض دعم الوقود بما له من آثار اجتماعية سلبية، كما ستظل قضايا مكافحة الفساد والشفافية والمساءلة أيضا محل خلاف.
استمرار السوق الموازية للدولار
وحسب أفضل التوقعات يمكن الحصول على الشريحة الأولى من قرض الصندوق أو حصيلة طرح سندات مصر بالأسواق الدولية فى منتصف أكتوبر القادم، وهكذا فسوف تظل الفجوة بين السعر الرسمى والسعر بالسوق الموازية متسعة خلال تلك المدة، مهما زادت الإجراءات البوليسية على شركات الصرافة، نظرا لوجود طلب دولارى لا تقوم البنوك بتغطيته، ولا تستطيع القيام بهذا الدور.
وفى حالة الحصول على قرض الصندوق والبنك الدولى والبنك الأفريقى والسندات وخفض قيمة الجنيه، يمكن أن تهدأ سوق الصرف الموازية لوقت قصير، لكنها ستظل موجودة لعدم استطاعة البنوك الوفاء باحتياجات المستوردين، واستمرار احتفاظ الكثيرين بما لديهم من دولارت للتحوط من عدم توافره، ووجود طلب آخر على الدولار لأمور غير مشروعة.
وهكذا يظل الحل الجذرى للمشكلة الاقتصادية يتعلق بالاستقرار السياسى، كما أشار تقرير للبنك الدولى مؤخرا على لسان أصحاب الشركات الخاصة بمصر، وبعلاج الانقسام المجتمعى وعودة الثقة للمناخ الاستثمارى، وعودة السياحة وحفز الصادرات على أن تقوم بإدخال حصيلة صادراتها ولا تستبقيها بالخارج.
وهى حلول تلقى عنادا من قبل السلطات الحاكمة فى الإقرار بها، مستمرة فى القمع والبطش بالمعارضين والادعاء الخادع باستقرار الأمور، ورفض أى انتقاد خارجى للأداء الاقتصادى وللمسؤول الأول عن المشاكل المترتبة على الدخول فى مشروعات ضخمة، ليست لها أولوية، مستنزفة كثير من الموارد رغم العجز بالموازنة وبميزان المدفوعات.
لذا ستظل عوامل المشكلة الاقتصادية مستمرة فى تأثيرها السلبى، لتجهض أى أثر إيجابى لقرض الصندوق، كما أجهضت من قبل أثر موارد أكبر وفرتها المنح والمساعدات الخليجية، وفى ظروف كانت أفضل من حيث انتظام تدفق الموارد من عدد من مصادر الدخل الأجنبى، وهو أمر اختلف تماما بالوقت الحالى.
أضف تعليقك