صباح يوم مجزرة رابعة، وبينما رائحة حرق جثث البشر أحياء لم تزل تملأ المكان، تلقيت اتصالاً من أم مصرية، تنتحب على من كن معها من المصريات، وحصدتهن آلة القتل.. كانت السيدة تبكي الشهداء، وتبكي حالها، وتقول، بصوتٍ تبلله الدموع: لم تصل إلى رأسي زخات الرصاص، حرمني المجرمون من شرف الشهادة، رغم أني في متناول أسلحتهم، أتوسل إلى فوهات المدافع أن ترسل ذخيرتها إليّ، ثم ختمت: مؤكدٌ أن الله ليس راضياً عني، وأن "الشهادة لا تذهب إلى لمن يستحقها".
تذكّرت هذا الصوت الصادق في بكائه وحزنه النبيل، وتذكّرت وجه محمد البلتاجي المشرق، وهو ينعى قطعة من قلبه (أسماء) وأنا أطالع كلماتٍ أخرى، تنتمي إلى عقيدةٍ أخرى، يعلن فيها أحد مقاولي الثلاثين من يونيو/حزيران 2013، المهندس ممدوح حمزة، انسحابه من ساحة "تويتر" من أجل أبنائه:
كتب يقول، بالحرف الواحد، وبالخطأ النحوي البليغ:
"ابني وابنتي يعيشون في الخارج
احاول إرجاعهم للحياه في مصر
شرطهم امتنع عن التغريد
هذه اخر تغريده لي وهذا من اجل أولادي
إعتذاري وشكري للمتابعين".
تخيل لو أن الرئيس محمد مرسي، أو الدكتور محمد البلتاجي، أو أيّاً من الرموز السياسية التي وقفت صامدةً أمام بطش الانقلاب في ميادين الاعتصام، استخدمت المنطق ذاته "من أجل أبنائي"، وأشهروا السكوت والانحناء أمام العاصفة، هل كان سيبقى للتاريخ المعاصر شيء محترم يكتبه؟
تخيل لو أن آلاف الشهداء الذين جزّتهم ماكينة القتل في رابعة، كانوا قد لزموا بيوتهم وابتلعوا ألسنتهم "من أجل أبنائي"، هل كان التاريخ سيجد ما يضيء به سواد صفحاته؟
تخيل، أيضاً، لو أن ماهينور المصري، قالت "من أجل أسرتي"، وخرجت من السجن إلى بيتها، خرساء لا تنطق، ولم تهتف "يسقط حكم العسكر.. الحرية لكل سجين"، قبل أن تصافح مستقبليها المهنئين بالخروج من الحبس، هل كانت ستحتفظ بمكانها في صفوف الرموز والأيقونات الثورية المحترمة؟
ممدوح حمزة، ومن لف لفه، ليست لديهم مشكلة في وصول من يملك السلاح إلى السلطة، فوق أجساد آلاف البشر، هم فقط يعترضون على أداء النظام الاقتصادي، ويعارضونه، حتى يفرج عن أصدقائهم وأعضاء قبيلتهم الأيديولوجية، المسجونين، ولا يتظاهرون إلا على بساط السوشيال ميديا. وعلى الرغم من ذلك، لا يتحملون الاستمرار في هذا النضال الافتراضي "من أجل أبنائي"، بينما كانوا أشجع الشجعان ضد حكم الرئيس المنتخب، حتى إن ممدوح حمزة، مثلاً، كان يتأبط رفيقه الخروف، ويدخل به إلى ستوديوهات الهواء.
أبناؤهم أعزاء، يستحقون ركوعهم أمام الظلم والطغيان، بينما أبناء الآخرين لا ثمن لهم، ولا قيمة، يقتلون ويُعذّبون في السجون، ويشرّدون في المنافي، بينما "السيد الأبيض" من هؤلاء يضحك ملء شدقيه، ويرقص، ويغني، مبتهجاً بما فعله السفاحون بهم.
قليلون نجوا من هذا العار الإنساني، في مقدمتهم "الاشتراكيون الثوريون" و"6 أبريل" ومحمد البرادعي، حين استقال فور وقوع المذبحة، ورحل عن مستنقع السلطة، وإن كان ذلك لا يعفيه تماماً من جزءٍ من المسؤولية عن إيصال أوغاد الاستبداد والإبادة إلى مقاعد الحكم.
كنا نتمنى أن يتحلى الدكتور محمد البرادعي بقليل من شجاعة "شباب 6 أبريل" في ذكرى المجزرة، ويلقي التحية على أرواح الشهداء، ويعتذر لثورة الإنسان، بعد مرور ثلاث سنوات على أبشع مذابح تاريخ مصر الحديث، ولا يكتفي بهذا النزر اليسير من فضيلة الانسحاب، بعد تنفيذ ما تم التحضير له في وجوده، وبعلمه.
لا يعترف التاريخ بكلمة "لو"، لكن الخيال يسمح بها، فتخيل لو أن البرادعي كان قد ألقى بالقفاز في وجوههم، قبل تنفيذ الجريمة، معلناً براءته من دمٍ سيُراق لا محالة، ولو أنه صرخ في البرية بكلمة "لا" مدويّة، قبل، وليس في أثناء الكارثة أو بعدها، وتخيل أيضاً لو أنه خرج الآن ببيان إلى الضمير الإنساني، يعلن فيه اعتذاره للدم، وللنفس البشرية، محرّراً نفسه من الغموض والتورية، "ورحم الله الجميع، وهدانا سواء السبيل" كما غرّد في ذكرى المجزرة، العام الماضي؟
مرة أخرى: في استقالة البرادعي، عقب جريان الدم أنهاراً، بعض من الفضيلة، تجعله على مسافةٍ معقولة من هؤلاء "الشطار" الذين ركبوا أرجوحة الانقلاب، وذاقوا عنبه وبلحه، إلى حين، ثم نزلوا، أو أُنزِلوا، ويعودون في مسوح صناع المستقبل.
انسحاب البرادعي فضيلة، لكنها ناقصة، أتمنى أن يحاول تعظيمها، واستكمال نواقصها، قبل، أو بعد، أن تصل إليك هذه السطور، وإلا فإنه يكون قد اختار عضوية جماعة "من أجل أبنائي".
أضف تعليقك