لا شك أن كل منصف يشهد بأن الإخوان المسلمين يتعرضون في هذه الأيام لحملة شرسة تزيد في ضراوتها عما تعرضوا له من ظلم على مدار تاريخهم الطويل، حيث انهالت عليهم الشبهات والاتهامات من هنا وهناك، وجُيشت الجيوش، وكُرست الجهود من أصحاب الأقلام المأجورة، والأفواه المسعورة، والحقد المشبوب، والغيرة المحمومة، فراحوا يلتقطون لهم كل سقطة، ويجمعون عليهم كل عثرة، ويتصيدون لهم كل لفظة، يحاولون أن ينسبوا إليهم كل سُبة، يلوون أعناق الكلام، ويؤولون أعمال القلوب، ويفسرون غيب الضمائر، ويزجون بالحركة الإسلامية إلى سبيل الفتن، تلحظ في أعماق نفوسهم سُعار على كل إصلاح، وحقد على كل بنَّاء، يحملون في قلوبهم براكين من الفتن، ما لو فتحت فوهاتها لأغرقت مصر كلها في لظاها المستعر.
وكلما صفق لهم الأتباع، وهتفت لهم الحناجر كلما انتفخوا كالطبل الأجوف، فراحوا يستمرؤن فعلتهم {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}.
ومن الشبهات ما يثير الشك والارتياب في صدق الدعوة والقائمين عليها، ومنها ما يتعلق بتجريح أشخاص الدعاة، ومنها ما يتعلق بالتشكيك في المنهج.
ولعل الهدف الأول من هذه الحملة التي طفحت منها المعاني البئيسة كالمستنقع الآسن هو تشتيت العقول، وتفريق الصفوف، وزرع شوك الضغائن في القلوب، وإشعال فتيل الفتن؛ لكي يضعوا الحواجز الفكرية والذهنية بين الإخوان وجموع المجتمع من أهالينا الطيّبين، البسطاء منهم والمثقفين، فيصدوا الناس عنهم، وهذا منهج قديم لا جديد فيه.
يقول الأستاذ عبد الكريم زيدان:وليعلم الداعي أن إثارة الشبهات في وجه الدعوة إلى الله أمر قديم، مضت به سنة الله في العباد، وشنشنة قديمة متوارثة بين أهل الباطل، لا يستغرب منها الداعي ولا يضيق بها، وهي في جوهرها لا تتغير ولا تتبدل، وإنما الذي يتغير فيها الأسلوب والكيفية، قال تعالى مخاطبًا نبيه الكريم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ:{مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ}.
فإذا فقه الداعي هذه الحقيقة، ووعاها جيدًا، زال عنه العجب والحنق والغضب إذا اتُّهم بالتهم الباطلة، أو أُثيرت الشكوك والريب حول دعوته؛ لأنه ليس أحسن حالاً من رسل الله، ولا أفصح بياناً منهم، ولا أكثر إخلاصاً منهم، ولا أكثر تأييداً من الله تعالى منهم، ومع هذه كله أثار أهل الباطل ما أثاروه من الشبهات حولهم مما قصَّه الله تعالى علينا في أخبارهم.
تأمل هذا الموقف جيداً لتعلم قدمه، قال ابن هشام في سيرته : اجتمع نفرٌ من قريش حول الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَكَانَ ذَا سِنّ فيهِمْ وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمَ، فَقَالَ لَهُمْ: يا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ - يعني موسم الحج - وَإِنّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بِأَمْرِ صَاحِبِكُمْ هَذَا، فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا وَاحِدًا، ولا تَخْتَلِفُوا، فَيُكَذّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا؛ قَالُوا: فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقُلْ وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ.... قال: إِنّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ لأنْ تَقُولُوا: سَاحِرٌ جَاءَ بِقَوْلٍ هُوَ سِحْرٌ؛ يُفَرّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَبَيْنَ الْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ. فَتُفَرّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ.
قال ابن إسحاق:فجعل أولئك النفر يقولون ذلك في رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمن لقوا من الناس، وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فانتشر ذكره في بلاد العرب كلها.
هكذا نرى اجتماع أبواق الباطل على فِرية معينة تلوكها الألسنة، وتجتمع حولها الآراء، وينطق بها الجميع، فيتردد صداها من هنا وهناك.
أضف تعليقك