منذ ثانية واحدة
لم يتعرض الجيش المصري لمثل هذه السخرية، منذ هزيمة سنة 1967، فالشعب الذي وثق في قواته المسلحة حد الإيمان بقدرتها على الحسم والانتصار، لم يجد ما ينفس به عن حجم خيبة الأمل، إلا بإطلاق النكات، وهو شعب عرف بالنكتة واشتهر بالفكاهة!
ولم ينطلق الإعلام الناصري متهماً الشعب بالخيانة الوطنية، ومطالبا بمحاكمة من سخروا أمام القضاء العسكري كما دعت الأذرع الإعلامية للجنرال عبد الفتاح السيسي، فقد استوعب عبد الناصر أسباب هذه النكات التي يطلقها المصريون على جيشهم، وقد عاشوا انتصاراته الدعائية، قبل أن يستيقظوا على الهزيمة المحبطة، وكل الذي فعله ناصر أنه دعا الشعب إلى التوقف عن السخرية، حتى لا تكون هزيمة الجيش مضاعفة!
كان عبد الناصر يعلم أن الجيش بهذه النكات فقد هيبته في نفوس المصريين، وهى هيبة لن تعود بالخطب الحماسية، وعودتها تكون بالنصر الذي به يستعيد الجيش مكانته في قلوب المصريين، الذي لم يملك "البكباشي" جمال عبد الناصر شيئاً منها، إلا أن يكون كلامه للشعب المصري هو "الرجاء"، و"الرجاء" وحده!
وإذ تعرض الجيش المصري في الأيام الأخيرة لعاصفة من السخرية، فلم يملك السيسي القدرة على أن يوجه رجاء للمصريين، وإنما ترك غلمانه يتهمون الساخرين بالخيانة، مع أنهم لو مدوا الحبل على استقامته، لوجدوا أن المتهم الأول في هذه القضية هو عبد الفتاح السيسي نفسه، الذي أراد أن يجعل من مصر، مجرد شركة لأعمال السمسرة يديرها الجيش، ليحكم قبضته هو على مصر ومواردها، وحتى تعن الوجوه له فلا يسمع حتى همسا!
ولابد أن يقودنا هذا إلى فتح القضية التي فجرت عاصفة السخرية، ومن المصريين من مختلف التيارات والمشارب، فلم يعد الأمر قاصراً على تيار الإسلام السياسي أو من يرفضون الانقلاب العسكري.
البداية كانت بانتفاضة الأمهات في أكثر من مكان احتجاجاً على عدم توفر لبن الأطفال المدعم في منافذ البيع، وعلى المساء كان وزير الصحة يعلن أن القوات المسلحة قامت بضخ 30 مليون علبة لبن أطفال في الأسواق، ليطرح هذا حزمة من الأسئلة:
فهل يمكن للجيش ولو كان يمتلك قوة خارقة، أن يحل الأزمة في بضع ساعات، لاسيما وأن لبن الأطفال لا ينتج محلياً، وإنما يجري استيراده من الخارج؟
ولماذا الجيش هو الذي قام بهذه المهمة، ولم تقم بها الأجهزة الحكومية المختصة؟
وإذا كان هناك من يردد أن وقف الاستيراد، هو بسبب عدم توافر العملة الأجنبية، فلماذا لا يقدم الجيش مساعدته للحكومة لتتولى أجهزتها توفير احتياجاتها من الخارج؟، بل لماذا تصبح الدولة المصرية في حاجة إلى العملة الصعبة ولا يدفع بها من يملكها إلى البنك المركزي، بدلاً من انتظار مساعدات بعض دول الخليج، التي قدمت على هيئة ودائع لضبط سعر الصرف، لاسيما وأن الجيش هو مؤسسة من مؤسسات الدولة المصرية وليس دولة من دول الجوار؟!
كان من الواضح أن القوات المسلحة قد أعدت عدتها مبكراً للاستحواذ على هذه السلعة الإستراتيجية، وربما أراد بعملية الضخ هذه أن لا يتوقف عن حد الاستفادة المالية، من "بيزنس ألبان الأطفال" ولكن ما يهدف إليه من وراء الإعلان عن الضخ بالإضافة إلى هذا، هو أن يتم شكره، باعتباره المنقذ والمؤسسة الوحيدة في الدولة المصرية القادرة على حل مشكلات المصريين إذا لزم الأمر، وباعتباره القوة الشبح!
لقد كنا أمام مشهد من فيلم هندي رديء، يكشف عن انعدام الخيال، والقدرة على الإبداع. ولا ريب؛ فعبد الفتاح السيسي مثله مثل مبارك، فكلاهما دخل مجال السينما من أدوار الكومبارس، (كل من حمدين صباحي وإبراهيم عيسي لهما مشاركات مشابهة)، وقد طمع مبارك في المكافأة التي سيحصل عليها الطيار الذي يظهر مع إسماعيل ياسين في فيلمه "في الطيران"، لكن يبدو أن الآخرين كانت لديهم رغبة حقيقية في التمثيل!
لم تكد تمر سوى عشر دقائق على بث خبر "الضخ"، وما طرحه من أسئلة، حتى وجدت أمامي إعلاناً منشوراً في إحدى الصحف يكشف الحقيقة المرة، على نحو داعب الجينات المهنية بداخلي، فالصحافة هى مهنة البحث عن الحقيقة، وقد أرسل لي الإعلان أحد الأصدقاء.
الإعلان، الذي علمت في وقت لاحق، أنه نشر في جريدة "الأهرام المسائي" في سبتمبر من العام الماضي، هو استغاثة مدفوعة الأجر، رفعها مجلس إدارة الشركة المصرية لتجارة الأدوية واللجنة النقابية بالشركة، لعبد الفتاح السيسي، الذي سبق الإعلان اسمه بوصف "فخامة السيد"، وألحق به صفة "رئيس الجمهورية"، والقوم يهيبون به التدخل لبحث أزمة ألبان الأطفال، والتي تتمثل في أن وزير الصحة طلب من الشركة التوقف عن استيراده، لأن "جهة سيادية" هى من ستقوم بهذه المهمة!
عندما طالعت الإعلان/ الاستغاثة، كانت الأمور أمامي واضحة، فكل ما جرى هو بهدف سيطرة "الجهة السيادية" على "بيزنس ألبان الأطفال"، ضمن مخطط السيسي لجعل مصر قبضته، ومواردها مطويات بيمينه، ومن أول تحصيل رسوم السير في الطرق، إلى استيراد دعامات القلب!
الشركة التي تحتكر استيراد "ألبان الأطفال" هى الشركة المصرية لتجارة الأدوية، وهى شركة مملوكة للدولة، وتعد واحدة من أكبر شركات توزيع الأدوية المحلية والمستوردة، وقد تأسست في يوليو 1965، برأس مال قدره واحد مليون جنيه، ومبيعات قدرها 17 مليون جنيه!
وكانت هناك محاولات سابقة لنظام مبارك لبيعها، وهو النظام الذي بدأ عملية بيع القطاع العام، وفي صفقات فساد، وصلت إلى حد أن الثمن الذي بيعت به كثير من الشركات لا يساوي قيمة الأرض التي تقام عليها، ولا تساوي كذلك قيمة أصولها، كنا أمام عملية نهب عشوائي لمقدرات الوطن، وقد تحرك نظام مبارك لبيع الصيدليات الكبرى التي تملكها الشركة مثل "صيدلية الإسعاف" و"الجمهورية" لصالح شركة "بوتس الانجليزية!"، لكن تحرك نقابة الصيادلة أوقف هذه الجريمة، وجاء نظام السيسي يبحث عما يبيعه، وكانت البدايةبعرض بعض وحدات القطاع العام في البورصة، وله في ذلك مآرب أخرى، أهمها سيطرته على كل "البيزنس" وعلى قاعدة "السبوبة"، لتصب موارد البلد كلها في "جيبه"، وقد تحرك مؤخراً للسيطرة على أموال النذور في المساجد التي بها أضرحة، والبداية كانت بتعيين مساعده للمشروعات الكبرى إبراهيم محلب رئيساً لمجلس إدارة مسجد الإمام الحسين!
الشركة المصرية لتجارة الأدوية، يقوم عملها في الأصل على استيراد الأدوية التي تقوم الدولة بدعمها، ولم يتبق لها في هذا المجال إلا "ألبان الأطفال"، و"الأنسولين"، وعندما ينتزع منها "ألبان الأطفال" فإننا أمام مؤامرة لتنفيذ المخطط القديم في بيع الشركة، وتشريد خمسة آلاف شخص يعملون بها، وهو الأمر الذي أدركه مجلس الإدارة واللجنة النقابية فكانت الاستغاثة للسيسي، وفات هؤلاء أن من استغاثوا به هو المتآمر الأول، ومن الأدلة على ذلك أنه لم يغث الملهوف ولم يحقق في المنشور. وفي الاستغاثة تم طرح سؤال مهم، فالشركة كانت تستورد وتوزع عقار فيروس سي "سوفالدي" لكن وزارة الصحة قامت بسحبه ضمن بعض الأدوية الأخرى وقامت بإسناد عملية الاستيراد والتوزيع للقطاع الخاص. وإذا كان من نشروا الاستغاثة قالوا إنهم لا يعرفون سبب هذا السحب والإسناد، فالأمر على درجة كبيرة من الوضوح، فالمعنى أنه إما أن القطاع الخاص المسند له الأمر، يملكه أصحاب النفوذ، وإما أن عمولة دفعت مقابل هذا السحب وذاك الإسناد!
الشركة المذكورة، تقوم باستيراد ألبان الأطفال المدعمة منذ عشرين عاماً، وتقوم بتوزيعه على 60 ألف صيدلية في عموم القطر المصري، فضلاً عن منافذ البيع الخاصة بها، بالإضافة إلى مراكز الأمومة والطفولة. وهى تملك أكبر مخازن على مستوى الجمهورية من حيث المساحة بالمقارنة بالشركات التي تعمل في مجال توزيع الدواء، وتعد المورد الرئيس للأدوية والمستشفيات والمراكز الطبية المملوكة لوزارة الصحة، والوزارة مديونة لها بأكثر من مليار جنيه متأخرات ومع ذلك لم تتوقف عن القيام بمسؤولياتها!
وهذا مجال يمثل غواية، لمن يريد أن يستورد ويستحوذ، لاسيما وأن الجيش استحوذ على عملية استيراد دعامات القلب من الخارج، بل قرأت أنه يتدخل الآن في عملية الإسناد في عملية توريد الأدوية والمستلزمات الطبية لوزارة الصحة ومستشفياتها، وعندما تم القبض على مسؤول بالوزارة قبل أسابيع، بتهمة أنه تلقى رشوة مقابل إرساء عملية توريد لصالح إحدى الشركات، وقد صرح بأن هذا أمر ليس من اختصاصه، فالجيش هو من يتولاه!
بعد يومين من السخرية مما جرى في أزمة ألبان الأطفال، لاسيما بعد الإعلان عن ضخ الجيش عن 30 مليون علبة ألبان في الأسواق، صدر بيان من المتحدث العسكري باسم القوات المسلحة، يستهدف وضع حد لطوفان السخرية، فإذا بالبيان يزيد من منسوبها، ولا يقلل منها.
البيان أوضح أن القوات المسلحة لاحظت قيام الشركات المختصة باستيراد عبوات لبن الأطفال باحتكار العبوات للمغالاة في سعرها مما تسبب في زيادة المعاناة على المواطن البسيط، وأن القوات المسلحة انطلاقا من دورها في خدمة المجتمع المدني (!) وفي ضرب الاحتكار الجشع للتجار والشركات العاملة في مجال عبوات الألبان(!) بالتنسيق مع وزارة الصحة بالتعاقد على نفس عبوات الألبان ليصل سعر العبوة للمواطن إلى ثلاثين جنيها بدلاً من ستين جنيها.
وهو بيان جاء يكحلها فأعماها، فليس من مسؤولية القوات المسلحة ضرب الاحتكار وخدمة المجتمع المدني، فهناك مؤسسات في الدولة المصرية منوطا بها ذلك، وعندما يجرى اختزال مصر في قواتها المسلحة، فإننا نكون أمام حالة انهيار للدولة ومؤسساتها يجعل من الاتهام للخصوم السياسيين بأنهم يعملون على هدم هذه المؤسسات اتهاماً لا يقوم على أساس، فهذا الاختزال يؤكد أنه لا وجود لهذه المؤسسات لكي يتم هدفها.
هذا فضلاً عن أن مجابهة الاحتكار لا تكون ببعث محتكر جديد، ولكن بمواجهة المحتكرين بسيف القانون، وهناك نصوص فيه تجرم الاحتكار والإغراق وما إلى ذلك، فلماذا لم تتخذ الإجراءات القانونية ضد المحتكرين، بدلاً من تكليف الجيش بعمل ليس من صميم اختصاصه؟!
كما أن وزارة الصحة هى التي تنظم عملية استيراد الأدوية، بما فيها ألبان الأطفال، وعندما يجري الحديث بعد ذلك عن تجار يحتكرون ويمارسون الجشع، فقد كان يكفي أن يتم فتح الباب لكل من يريد الاستيراد!
الشاهد أن الشركة المحتكرة، هي المصرية لتجارة الأدوية وهى شركة مملوكة للدولة، وهى لا تحتكر إلا الدواء المدعم حكوميا، فهل كان بيان المتحدث الرسمي يقصدها عندما تحدث عن الجشع والاحتكار؟!
في الحقيقة أن البيان خلط بين أمرين عن عمد، الأول: هو الألبان المدعمة التي تقوم به الشركة الحكومية، وتباع العبوة منها، بخمسة جنيهات. والثاني هو الألبان التي تستوردها الشركات الأخرى وهى التي تباع بستين جنيهاً، وهو خلط مقصود، فالقوات المسلحة تدخل على المجال الحيوي لشركة الأدوية، وهى إن باعت العبوة بثلاثين جنيها فمعنى هذا أنها رفعت سعرها بالنسبة للعبوات المدعمة كليا، أو المدعمة جزئيا وتباع بسبعة عشر جنيها!
كل ما كان يقصده بيان المتحدث العسكري هو في الواقع نفي المؤامرة في موضوع تدخل الجيش، فلم يتم الأمر خلال ساعات استغلالاً للمظاهرات أو استدعاء لها، فلا توجد لدى القوات المسلحة أي عبوات مخزنة وأول دفعة استيراد سيتم استلامها في 15 سبتمبر الجاري، كما قال البيان.
حسناً، بل ليس حسناً على الإطلاق فوزير الصحة هو من قال إن القوات المسلحة قامت بضخ 30 مليون عبوة في الأسواق، وإذا كان يكذب فلماذا لم يتم إعلان الحقيقة بعد ساعات من تصريحه، والانتظار ليومين ليتحفنا المتحدث العسكري ببيانه؟!
وما هو قوله في الاستغاثة التي رفعتها الشركة للسيسي قبل حول كامل، وتعلن فيها أن وزارة الصحة ألغت مناقصة الاستيراد بعد التشاور مع شركات القطاع الخاص، قبل علمهم انه سيتم استيراد الألبان عن طريق إحدى الجهات السيادية. والمزعج في هذه الاستغاثة أنه إذا كانت "الجهة السيادية" هى ما ستقوم بالاستيراد فإن القطاع الخاص هو من سيتولى التوزيع، لتكون من هنا أمام مؤامرة تستهدف واحدة من الشركات المملوكة للشعب، وتشريد العاملين فيها وعددهم خمسة آلاف عامل!
لا بأس، فالبأس الشديد هو ما قاله وزير الصحة لستر الفضيحة بطرف ثيابه من أنه لا توجد أزمة في ألبان الأطفال فهى متوفرة في السوق، وأن الأزمة مفتعلة، وهناك من دفعوا أموالاً لمن تظاهرن.
فإذا كانت الأمور على ما يرام، فلماذا تم إسناد مهمة الاستيراد للجيش؟!
إن على من أذرفوا دموع التماسيح للسخرية من الجيش، أن يجيبوا على سؤال واحد وهو: من الذي دفع الجيش لهذه الملهاة، والألبان متوفرة؟.. ومن الذي يهدف لإسقاط هيبته، خدمة لأعداء الوطن الحقيقيين؟!
لقد توقفت السخرية من الجيش المصري بانتصاره في أكتوبر 1973، وأعادها عبد الفتاح السيسي، لأنه عندما فشل كرئيس تصرف كسمسار!
ولم ينطلق الإعلام الناصري متهماً الشعب بالخيانة الوطنية، ومطالبا بمحاكمة من سخروا أمام القضاء العسكري كما دعت الأذرع الإعلامية للجنرال عبد الفتاح السيسي، فقد استوعب عبد الناصر أسباب هذه النكات التي يطلقها المصريون على جيشهم، وقد عاشوا انتصاراته الدعائية، قبل أن يستيقظوا على الهزيمة المحبطة، وكل الذي فعله ناصر أنه دعا الشعب إلى التوقف عن السخرية، حتى لا تكون هزيمة الجيش مضاعفة!
كان عبد الناصر يعلم أن الجيش بهذه النكات فقد هيبته في نفوس المصريين، وهى هيبة لن تعود بالخطب الحماسية، وعودتها تكون بالنصر الذي به يستعيد الجيش مكانته في قلوب المصريين، الذي لم يملك "البكباشي" جمال عبد الناصر شيئاً منها، إلا أن يكون كلامه للشعب المصري هو "الرجاء"، و"الرجاء" وحده!
وإذ تعرض الجيش المصري في الأيام الأخيرة لعاصفة من السخرية، فلم يملك السيسي القدرة على أن يوجه رجاء للمصريين، وإنما ترك غلمانه يتهمون الساخرين بالخيانة، مع أنهم لو مدوا الحبل على استقامته، لوجدوا أن المتهم الأول في هذه القضية هو عبد الفتاح السيسي نفسه، الذي أراد أن يجعل من مصر، مجرد شركة لأعمال السمسرة يديرها الجيش، ليحكم قبضته هو على مصر ومواردها، وحتى تعن الوجوه له فلا يسمع حتى همسا!
ولابد أن يقودنا هذا إلى فتح القضية التي فجرت عاصفة السخرية، ومن المصريين من مختلف التيارات والمشارب، فلم يعد الأمر قاصراً على تيار الإسلام السياسي أو من يرفضون الانقلاب العسكري.
البداية كانت بانتفاضة الأمهات في أكثر من مكان احتجاجاً على عدم توفر لبن الأطفال المدعم في منافذ البيع، وعلى المساء كان وزير الصحة يعلن أن القوات المسلحة قامت بضخ 30 مليون علبة لبن أطفال في الأسواق، ليطرح هذا حزمة من الأسئلة:
فهل يمكن للجيش ولو كان يمتلك قوة خارقة، أن يحل الأزمة في بضع ساعات، لاسيما وأن لبن الأطفال لا ينتج محلياً، وإنما يجري استيراده من الخارج؟
ولماذا الجيش هو الذي قام بهذه المهمة، ولم تقم بها الأجهزة الحكومية المختصة؟
وإذا كان هناك من يردد أن وقف الاستيراد، هو بسبب عدم توافر العملة الأجنبية، فلماذا لا يقدم الجيش مساعدته للحكومة لتتولى أجهزتها توفير احتياجاتها من الخارج؟، بل لماذا تصبح الدولة المصرية في حاجة إلى العملة الصعبة ولا يدفع بها من يملكها إلى البنك المركزي، بدلاً من انتظار مساعدات بعض دول الخليج، التي قدمت على هيئة ودائع لضبط سعر الصرف، لاسيما وأن الجيش هو مؤسسة من مؤسسات الدولة المصرية وليس دولة من دول الجوار؟!
كان من الواضح أن القوات المسلحة قد أعدت عدتها مبكراً للاستحواذ على هذه السلعة الإستراتيجية، وربما أراد بعملية الضخ هذه أن لا يتوقف عن حد الاستفادة المالية، من "بيزنس ألبان الأطفال" ولكن ما يهدف إليه من وراء الإعلان عن الضخ بالإضافة إلى هذا، هو أن يتم شكره، باعتباره المنقذ والمؤسسة الوحيدة في الدولة المصرية القادرة على حل مشكلات المصريين إذا لزم الأمر، وباعتباره القوة الشبح!
لقد كنا أمام مشهد من فيلم هندي رديء، يكشف عن انعدام الخيال، والقدرة على الإبداع. ولا ريب؛ فعبد الفتاح السيسي مثله مثل مبارك، فكلاهما دخل مجال السينما من أدوار الكومبارس، (كل من حمدين صباحي وإبراهيم عيسي لهما مشاركات مشابهة)، وقد طمع مبارك في المكافأة التي سيحصل عليها الطيار الذي يظهر مع إسماعيل ياسين في فيلمه "في الطيران"، لكن يبدو أن الآخرين كانت لديهم رغبة حقيقية في التمثيل!
لم تكد تمر سوى عشر دقائق على بث خبر "الضخ"، وما طرحه من أسئلة، حتى وجدت أمامي إعلاناً منشوراً في إحدى الصحف يكشف الحقيقة المرة، على نحو داعب الجينات المهنية بداخلي، فالصحافة هى مهنة البحث عن الحقيقة، وقد أرسل لي الإعلان أحد الأصدقاء.
الإعلان، الذي علمت في وقت لاحق، أنه نشر في جريدة "الأهرام المسائي" في سبتمبر من العام الماضي، هو استغاثة مدفوعة الأجر، رفعها مجلس إدارة الشركة المصرية لتجارة الأدوية واللجنة النقابية بالشركة، لعبد الفتاح السيسي، الذي سبق الإعلان اسمه بوصف "فخامة السيد"، وألحق به صفة "رئيس الجمهورية"، والقوم يهيبون به التدخل لبحث أزمة ألبان الأطفال، والتي تتمثل في أن وزير الصحة طلب من الشركة التوقف عن استيراده، لأن "جهة سيادية" هى من ستقوم بهذه المهمة!
عندما طالعت الإعلان/ الاستغاثة، كانت الأمور أمامي واضحة، فكل ما جرى هو بهدف سيطرة "الجهة السيادية" على "بيزنس ألبان الأطفال"، ضمن مخطط السيسي لجعل مصر قبضته، ومواردها مطويات بيمينه، ومن أول تحصيل رسوم السير في الطرق، إلى استيراد دعامات القلب!
الشركة التي تحتكر استيراد "ألبان الأطفال" هى الشركة المصرية لتجارة الأدوية، وهى شركة مملوكة للدولة، وتعد واحدة من أكبر شركات توزيع الأدوية المحلية والمستوردة، وقد تأسست في يوليو 1965، برأس مال قدره واحد مليون جنيه، ومبيعات قدرها 17 مليون جنيه!
وكانت هناك محاولات سابقة لنظام مبارك لبيعها، وهو النظام الذي بدأ عملية بيع القطاع العام، وفي صفقات فساد، وصلت إلى حد أن الثمن الذي بيعت به كثير من الشركات لا يساوي قيمة الأرض التي تقام عليها، ولا تساوي كذلك قيمة أصولها، كنا أمام عملية نهب عشوائي لمقدرات الوطن، وقد تحرك نظام مبارك لبيع الصيدليات الكبرى التي تملكها الشركة مثل "صيدلية الإسعاف" و"الجمهورية" لصالح شركة "بوتس الانجليزية!"، لكن تحرك نقابة الصيادلة أوقف هذه الجريمة، وجاء نظام السيسي يبحث عما يبيعه، وكانت البدايةبعرض بعض وحدات القطاع العام في البورصة، وله في ذلك مآرب أخرى، أهمها سيطرته على كل "البيزنس" وعلى قاعدة "السبوبة"، لتصب موارد البلد كلها في "جيبه"، وقد تحرك مؤخراً للسيطرة على أموال النذور في المساجد التي بها أضرحة، والبداية كانت بتعيين مساعده للمشروعات الكبرى إبراهيم محلب رئيساً لمجلس إدارة مسجد الإمام الحسين!
الشركة المصرية لتجارة الأدوية، يقوم عملها في الأصل على استيراد الأدوية التي تقوم الدولة بدعمها، ولم يتبق لها في هذا المجال إلا "ألبان الأطفال"، و"الأنسولين"، وعندما ينتزع منها "ألبان الأطفال" فإننا أمام مؤامرة لتنفيذ المخطط القديم في بيع الشركة، وتشريد خمسة آلاف شخص يعملون بها، وهو الأمر الذي أدركه مجلس الإدارة واللجنة النقابية فكانت الاستغاثة للسيسي، وفات هؤلاء أن من استغاثوا به هو المتآمر الأول، ومن الأدلة على ذلك أنه لم يغث الملهوف ولم يحقق في المنشور. وفي الاستغاثة تم طرح سؤال مهم، فالشركة كانت تستورد وتوزع عقار فيروس سي "سوفالدي" لكن وزارة الصحة قامت بسحبه ضمن بعض الأدوية الأخرى وقامت بإسناد عملية الاستيراد والتوزيع للقطاع الخاص. وإذا كان من نشروا الاستغاثة قالوا إنهم لا يعرفون سبب هذا السحب والإسناد، فالأمر على درجة كبيرة من الوضوح، فالمعنى أنه إما أن القطاع الخاص المسند له الأمر، يملكه أصحاب النفوذ، وإما أن عمولة دفعت مقابل هذا السحب وذاك الإسناد!
الشركة المذكورة، تقوم باستيراد ألبان الأطفال المدعمة منذ عشرين عاماً، وتقوم بتوزيعه على 60 ألف صيدلية في عموم القطر المصري، فضلاً عن منافذ البيع الخاصة بها، بالإضافة إلى مراكز الأمومة والطفولة. وهى تملك أكبر مخازن على مستوى الجمهورية من حيث المساحة بالمقارنة بالشركات التي تعمل في مجال توزيع الدواء، وتعد المورد الرئيس للأدوية والمستشفيات والمراكز الطبية المملوكة لوزارة الصحة، والوزارة مديونة لها بأكثر من مليار جنيه متأخرات ومع ذلك لم تتوقف عن القيام بمسؤولياتها!
وهذا مجال يمثل غواية، لمن يريد أن يستورد ويستحوذ، لاسيما وأن الجيش استحوذ على عملية استيراد دعامات القلب من الخارج، بل قرأت أنه يتدخل الآن في عملية الإسناد في عملية توريد الأدوية والمستلزمات الطبية لوزارة الصحة ومستشفياتها، وعندما تم القبض على مسؤول بالوزارة قبل أسابيع، بتهمة أنه تلقى رشوة مقابل إرساء عملية توريد لصالح إحدى الشركات، وقد صرح بأن هذا أمر ليس من اختصاصه، فالجيش هو من يتولاه!
بعد يومين من السخرية مما جرى في أزمة ألبان الأطفال، لاسيما بعد الإعلان عن ضخ الجيش عن 30 مليون علبة ألبان في الأسواق، صدر بيان من المتحدث العسكري باسم القوات المسلحة، يستهدف وضع حد لطوفان السخرية، فإذا بالبيان يزيد من منسوبها، ولا يقلل منها.
البيان أوضح أن القوات المسلحة لاحظت قيام الشركات المختصة باستيراد عبوات لبن الأطفال باحتكار العبوات للمغالاة في سعرها مما تسبب في زيادة المعاناة على المواطن البسيط، وأن القوات المسلحة انطلاقا من دورها في خدمة المجتمع المدني (!) وفي ضرب الاحتكار الجشع للتجار والشركات العاملة في مجال عبوات الألبان(!) بالتنسيق مع وزارة الصحة بالتعاقد على نفس عبوات الألبان ليصل سعر العبوة للمواطن إلى ثلاثين جنيها بدلاً من ستين جنيها.
وهو بيان جاء يكحلها فأعماها، فليس من مسؤولية القوات المسلحة ضرب الاحتكار وخدمة المجتمع المدني، فهناك مؤسسات في الدولة المصرية منوطا بها ذلك، وعندما يجرى اختزال مصر في قواتها المسلحة، فإننا نكون أمام حالة انهيار للدولة ومؤسساتها يجعل من الاتهام للخصوم السياسيين بأنهم يعملون على هدم هذه المؤسسات اتهاماً لا يقوم على أساس، فهذا الاختزال يؤكد أنه لا وجود لهذه المؤسسات لكي يتم هدفها.
هذا فضلاً عن أن مجابهة الاحتكار لا تكون ببعث محتكر جديد، ولكن بمواجهة المحتكرين بسيف القانون، وهناك نصوص فيه تجرم الاحتكار والإغراق وما إلى ذلك، فلماذا لم تتخذ الإجراءات القانونية ضد المحتكرين، بدلاً من تكليف الجيش بعمل ليس من صميم اختصاصه؟!
كما أن وزارة الصحة هى التي تنظم عملية استيراد الأدوية، بما فيها ألبان الأطفال، وعندما يجري الحديث بعد ذلك عن تجار يحتكرون ويمارسون الجشع، فقد كان يكفي أن يتم فتح الباب لكل من يريد الاستيراد!
الشاهد أن الشركة المحتكرة، هي المصرية لتجارة الأدوية وهى شركة مملوكة للدولة، وهى لا تحتكر إلا الدواء المدعم حكوميا، فهل كان بيان المتحدث الرسمي يقصدها عندما تحدث عن الجشع والاحتكار؟!
في الحقيقة أن البيان خلط بين أمرين عن عمد، الأول: هو الألبان المدعمة التي تقوم به الشركة الحكومية، وتباع العبوة منها، بخمسة جنيهات. والثاني هو الألبان التي تستوردها الشركات الأخرى وهى التي تباع بستين جنيهاً، وهو خلط مقصود، فالقوات المسلحة تدخل على المجال الحيوي لشركة الأدوية، وهى إن باعت العبوة بثلاثين جنيها فمعنى هذا أنها رفعت سعرها بالنسبة للعبوات المدعمة كليا، أو المدعمة جزئيا وتباع بسبعة عشر جنيها!
كل ما كان يقصده بيان المتحدث العسكري هو في الواقع نفي المؤامرة في موضوع تدخل الجيش، فلم يتم الأمر خلال ساعات استغلالاً للمظاهرات أو استدعاء لها، فلا توجد لدى القوات المسلحة أي عبوات مخزنة وأول دفعة استيراد سيتم استلامها في 15 سبتمبر الجاري، كما قال البيان.
حسناً، بل ليس حسناً على الإطلاق فوزير الصحة هو من قال إن القوات المسلحة قامت بضخ 30 مليون عبوة في الأسواق، وإذا كان يكذب فلماذا لم يتم إعلان الحقيقة بعد ساعات من تصريحه، والانتظار ليومين ليتحفنا المتحدث العسكري ببيانه؟!
وما هو قوله في الاستغاثة التي رفعتها الشركة للسيسي قبل حول كامل، وتعلن فيها أن وزارة الصحة ألغت مناقصة الاستيراد بعد التشاور مع شركات القطاع الخاص، قبل علمهم انه سيتم استيراد الألبان عن طريق إحدى الجهات السيادية. والمزعج في هذه الاستغاثة أنه إذا كانت "الجهة السيادية" هى ما ستقوم بالاستيراد فإن القطاع الخاص هو من سيتولى التوزيع، لتكون من هنا أمام مؤامرة تستهدف واحدة من الشركات المملوكة للشعب، وتشريد العاملين فيها وعددهم خمسة آلاف عامل!
لا بأس، فالبأس الشديد هو ما قاله وزير الصحة لستر الفضيحة بطرف ثيابه من أنه لا توجد أزمة في ألبان الأطفال فهى متوفرة في السوق، وأن الأزمة مفتعلة، وهناك من دفعوا أموالاً لمن تظاهرن.
فإذا كانت الأمور على ما يرام، فلماذا تم إسناد مهمة الاستيراد للجيش؟!
إن على من أذرفوا دموع التماسيح للسخرية من الجيش، أن يجيبوا على سؤال واحد وهو: من الذي دفع الجيش لهذه الملهاة، والألبان متوفرة؟.. ومن الذي يهدف لإسقاط هيبته، خدمة لأعداء الوطن الحقيقيين؟!
لقد توقفت السخرية من الجيش المصري بانتصاره في أكتوبر 1973، وأعادها عبد الفتاح السيسي، لأنه عندما فشل كرئيس تصرف كسمسار!
أضف تعليقك