حصان طروادة تلك الأسطورة التي لن ينساها التاريخ ولم ينسها الساسة في العالم كله ، فرغم أن حصان طروادة خدعة حصان طروادة المخبأ ليكون هديه للشعب أذا ما ثار يوما فيعود الديكتاتور بنظامه ورجاله مرة أخرى من جوفه.
فقد أخبرنا التاريخ أن كل ثورة قامت على أي ديكتاتور كان لتلك الثورة حصان طروادة الذي تخرج منه الثورة المضادة، ففي الثورة الفرنسية على سبيل المثال (وذلك للتنبيه لمن ينتظرون ثورة للجياع) كان الفقر هو حصان طروادة فبسبب السياسة الاقتصادية الرعناء للملك أنتشر الفقر والجوع بربوع فرنسا مما أدى تحت حكم (الضرورة) أن تثور جموع الفقراء نتيجة الجوع وليس الظلم ، فألهموا من كانوا يطالبون بالحرية أن يستغلوا هذا الحشد الجائع ليطيحوا بالفساد، لكن، لم يعلموا وقتها أن الفقر هو الحصان الذي سيخرج منه النظام مرة أخرى ويفشل ثورتهم، فحين وصلت الجموع الجائعة إلى المشهد السياسي عرف المطالبين بالحرية أن جمهوريتهم ولدت ميته، لأن وقتها كان على (الحرية) أن تستسلم وتنزل على رغبة (الضرورة) الغوغائية التي تسببت بانحراف الثورة عن مسارها كنزعة تحرر من الاستبداد إلى انتقام جياع ففشلت الثورة.
أما عندنا فحصان طروادة هو (الهوية) فقد نجحت النظم العربية بمساعدة الغرب في إفقاد شعوب المنطقة هويتها فصرنا شعوب متجزرة لا يجمعنا رابط لم نعد أمة، ومع طول عصور الاحتلال ومن بعدها حكم العملاء وصلنا إلى أن صارت كلمة دولة مضادة لكلمة أمة، ومن يطالب بعودة الأمة يتهم بالخيانة لحدود دولته التي صارت قدس الأقداس الذي يمنع الاقتراب منه فصار موضوع تسيس الهوية هو الشغل الشاغل للجميع، بين المطالبين بكسر الحدود والعودة لهوية إسلامية، وبين المغالين في قدسية الحدود، والمستفيد الوحيد من ذلك هم الحكام لانهم شغلوا الشعوب عنهم وعن أفعالهم وتركوا تلك الملهاة لتفريغ غضب وطاقة شعوبهم وكل ذلك داخل الإطار مسموح به.
ومن خلال هذه الفجوة استطاعت الأحزاب الإسلامية أن تتأسس كمحاولة منها للحفاظ على الهوية الإسلامية وتبني قضايا الأمة ولكن للأسف كان بالكلام فقط، فلم يسمح لهم أن يخوضوا معترك سياسي حقيقي في ميدان الحقوق والحريات، فركزوا على العمل الاجتماعي ، وأصبح لهم ظهير شعبي، وظلوا منتظرين أي حدث ليستفيدوا من تنظيمهم ، حتى قامت ثورات الربيع العربي وخرج اللاعبين عن الطوق المحدد، وثار الناس مطالبين بحقوقهم في الحياة، وكان خير معبر يساند حقوقهم تيار يحمل الهوية الإسلامية، وكان هذا التيار أيضا يحلم بأن يصل من خلال تلك الثورة إلى اكتمال الدور السياسي له، فيخوض كل معتركات الحياة السياسية، ولكن لأنه تربى داخل حاضنة نظام قمعي، فكان له أخطاؤه التي استغلها النظام القديم وخرج منها بثورته المضادة.
وهناك ظاهرتان تكررتا في تاريخ الثورات المضادة هما اغتيال الاعتدال واستيراد الثورة
• اغتيال الاعتدال: يعني أن الثورة المضادة تنقل الثورات من نهج إصلاحي تفاوضي، إلى مواجهة وجودية هوجاء نتيجة همجية الحكام.
• استيراد الثورة: انتقال عدوى الثورة إلى الدول التي سعت قياداتُها إلى وأد الثورات في دول أخرى. وأبرز مثال غزو نابليون الملكيات الأوربية التي سعت إلى وأد الثورة الفرنسية ،فانتقلت الثورات لتلك الممالك من حيث أرادت الوقاية.
وقد وضح لنا ابن خلدون أن بعد الثورات تتغير طبيعة الناس ومدى تقبلها للأنظمة الجديدة التي جاءت بحرب أو ثورة وما هي الصعوبات التي تعترضها
أبرز هذه المصاعب هي طبيعة انقياد الناس للحكم الجديد حيث يحدث حالات تذمر وتمرد مرجعها تعودهم على نظام سابق وعند ذهابه الكل يريد نتيجة افضل وبصورة سريعة تنعكس على حياته.
أما النظام الجديد فيرى انه يبدأ بالاعتماد على الأقارب وبعصرنا الحالي يستبدل الأقارب بأعضاء الحزب أو المؤيدين و تستمر حالة عدم الاستقرار مع أشكال الحكم الجديدة إلى فترة من الزمن يرجع طولها أو قصرها إلى طول فترة الحكم السابق وعدد أنصاره المناهضين.
وهنا ظهرت مشكلة الثورة في مصر فحينما كانت ثورتنا مازالت وليدة كانت مطالب الشعب منها أكبر من قدراتها فلم يمهلها أحد الفرصة ليشتد عودها، ففتك بها أنصارها قبل أعدائها.
ولكن الفتك بالثورة المصرية كان عنيفا وسريع فخلافا عن كل بلدان العالم ،عندما تقوم ثورة يكون هناك قوتان تتقاتلان (ثوار- نظام) إلا في مصر فمنذ أن دخل الجيش معترك السياسة سنة 1952 أصبح هناك ثلاث قوى (الثوار- النظام وتمثله الدولة العميقة – العسكر) ودائما ما أتحدت قوتان ضد قوة فكان العسكر مع الدولة العميقة ضد الشعب الذي يغلي بثورة نتيجة ما يلاقيه من قهر على يد تلك القوتان، حتى أستشعر العسكر خطر الدولة العميقة عليه في سنة 2011 فغير أوراق لعبة وأنحاز للقوه الجديدة التي قويت فظهر بمظهر المناصر والحامي للثورة، رغم أن الحقيقة هي محاولته للحفاظ على مكتسباته التي حصل عليها طوال سنوات والطمع في مزيد من الامتيازات، و محاولته استثمار الوقت حتى يرتب أورق اللعبة لصالحة.
وبالاتحاد الجديد بين (الثوار والعسكر) خرجت الدولة العميقة مؤقتا من المشهد، ولكن لأن العسكر يعلم جيدا أن أحلام وأماني الثوار لن تتناسب مع أطماعه كان لابد أن يتخلص من شريكه الجديد ولكن بعد أضعافه وإنهاكه تماما ليضمن عدم عودته لمسرح الأحداث، ويتم ذلك بمساعدة الشريك القديم (الدولة العميقة) مقابل عودتها للمشهد السياسي، ولكن بشروط العسكر، ومن أجل التخلص من الثورة المزعجة كانت هناك خطوات:
1. تنضم إليها (عن طريق استمالة أو خداع "عناصر من الثورة" للتعاون معهم من أجل تحجيم الثوار وتفتيتهم)
٢. حزّبها وعسكرها لتفرق شملها (عمل العسكر منذ اللحظة الأولى على تفتيت الثور فقسمهم إلى (أخوان وثوار)
3. تتضامن مع “الواقعيين“ أمثالك لتهميش “المتطرفين“-الذين كانوا بالأمس قلب الثورة (عبر قمع الإخوان ومن ناصرهم بوصفهم بالإرهاب والخونة ) وبعد التخلص من الفصيل الأكبر يأتي دور البقية فعمل العسكر على أعداد كوادر وجماعات من داخل صفوف الثوار تصف نفسها بالمعتدلة الحريصة على مؤسسات الدولة، وهو الفريق المجهز لقبول التنازلات، مقابل فريق آخر يتم وصفه بالعنف والخيانة لأنه ضد مؤسسات الدولة وأنه لا يرضى بأي حلول وسطية لتخطي الأزمة، وتبدء محاولة إخراجه من المشهد.
4. تفاوض عنها : وذلك من خلال جماعة ضمن الكيان الثوري تكون ثقافتها قائمة على(تقبل التنازلات) بحجة مجاراة الواقع وزرع فكرة أن التخلص من السيسي هو جل الانتصار وبذلك تدجن الثورة وتتحول من مقاومة للانقلاب إلى مجرد معارضة
5. إعادة النظام السابق بشكل مختلف هنا تكمن الخطورة حيث بدء رجال الدولة العميقة اللعب لحسابهم باستغلال الثوار وكرههم للعسكر حيث أصبح شغل الثوار الشاغل بين بعضهم البعض هو التمسك بالثوابت (القصاص، الشرعية، الاستحقاقات) وعدم التنازل عنها وذلك لظهور تيار من الثوار بدء بالمطالبة بالتنازل عن بعض هذه الثوابت، ولكن ما لا يدركه الثوار هو تلك الدائرة التي أدخلوا فيها وهى التنازل عن ماذا؟ لمن؟.
فهل كل المطالبين بالتنازل خونة؟
لا ليس كلهم فهناك من يحكم على المشهد من زاوية أن الصراع ثنائي الأبعاد (ثوار ضد انقلاب) وهو بتنازله عن بعض ثوابته للخلاص من الانقلاب دون أن يدرك أن نظرته خاطئة تصب في مصلحة الدولة العميقة أي أنه يعيد النظام القديم فهو تحالف غير مباشر بين (الدولة العميقة- الثوار) للتخلص من العسكر.
يرى الثوار أن الخلاص من الانقلاب هو إنقاذ لما يمكن إنقاذه من البلاد، ويرى رجال الدولة العميقة التي يقودها رجال الأعمال أن التخلص من الانقلاب هو عودة لمصالحها بعد أن أستأثر العسكر بالكعكة كاملة، فكان لابد أن يتحركوا بثورة مضادة2 لكن هذه المرة ضد العسكر وضد الثورة فهي ثورة خالصة لمصالحهم ونفوذهم.
وتعتمد الدولة العميقة في ثورتها هذه على التحريك التدريجي للمؤسسات الأمنية والإعلامية والقضائية والدينية، لإضعاف هيبة الانقلاب، وإظهاره بمظهر العاجز بشكل مستمر، مع استمرار الهجوم على الثورة والثوار.
المشهد الجديد تخلي القوى الخارجية عن العسكر الذي أثبت فشله، والرجوع لحليفها القديم الدولة العميقة فيستعينوا بالثوار للإسقاط الانقلاب وإعطاء الثوار انتصار صوري يفرحون به، ولكن الحقيقة هي أنهم يدبرون للخلاص من الثورة أيضا، فهم من الأن روجوا لفكرة تنازل مرسي عن الحكم وأصبحت الفكرة متداولة ومقبولة داخل الكيان الثوري، ربما بعد التخلص من الانقلاب وإكمالا لمشهد النصر الثوري يعود مرسي للحكم لفترة مؤقتة يدعو خلالها لانتخابات رئاسية جديده أو يتنازل عن الحكم لصالح قوى ثورية نمت تحت عين الدولة العميقة ، فيقود المرحلة تيار الاصطفاف الذي يضم كل المختلفين ايدلوجيا، وهذه هي الرصاصة الأخيرة في قلب الثورة، لأن الكيانات المركبة محاضن للمعارضة وليست محاضن للثورات.
يجب أن يستفيق الثوار سريعا من تلك الغفلة قبل فوات الأوان، يجب أن نعلم أن الثورة لا تأتي بالعدل والنهضة والازدهار في يوم وليله بل هناك ارث وتركة من الفساد يجب التخلص منها قبل أن نبدأ في البناء، لا تسمحوا أن تكونوا حصان طروادة المخبأ داخله عدوكم.
* هذا المقال لا يعبر الا عن رأي كاتبه *
أضف تعليقك