• الصلاة القادمة

    العصر 13:46

 
news Image
منذ ثانية واحدة

"مصطفى مشهور" رجلُ الدعوة الربانيُّ، انضم لجماعة "الإخوان المسلمين" مبكِّرا، وعندما رآه الإمام "البنا" تفرّس فيه وقال له: أنت أمين هذه الدعوة كما حدّثني بهذا الحاج "فرج النجار" رحمه الله.
 
 وهو أحد قيادات النظام الخاص للجماعة الذي أنشئ لقتال الإنجليز في فترة الأربعينيات وبداية الخمسينيات!! 
 
وقد اختير مرشدًا عامًّا للإخوان المسلمين خلفاً للأستاذ "محمد حامد أبو النصر" بعد وفاته عام 1996م.
 
ويعَدّ الأستاذ "مصطفى مشهور" المؤسِّسَ الثاني لجماعة الإخوان! 
 
شارك مع الأستاذ "عمر التلمساني" و قادة "الإخوان" في إعادة هيكلة الجماعة ومؤسساتها في مصر بعد خروجهم من السجون في أوائل السبعينيات من القرن الميلادي الماضي.
 
وعندما تم اختياره مسئولا لقطاع طلبة الجامعات عام 1974م كانت قدرته في التعامل مع الأجيال الجديدة باهرة، وأدت إلى انتشار التيار الإسلامي في الجامعات، وهو ما أحدث تغيراً واسعاً في المجتمع الذي انتشرت فيه الصحوة الإسلامية وانتقلت إلى سائر الشعوب الإسلامية.
 
 ولم تشغله السياسية عن الدعوة والتربية، كما لم تبعده الدعوة والتربية عن العمل السياسيّ، بل كان يوازن بينها جميعا، بحيث لا تغطى إحداها على الأخرى، وإن كان العمل التربويّ هو المقدمَ عنده؛ لأنه أمضى سنوات مديدة مع طلبة الجامعات، يربيهم ويعمِّق غِراس الإيمان
والتضحية والبذل في نفوسهم، ليكونوا مؤهلين لتسلم العمل المناسب لكل منهم، وليكونوا قادة المستقبل، وحمَلةَ الرايةِ.
 
وكان يعتبر تغليبَ العملِ السياسيِّ على العمل الدعويِّ والتربويِّ انحرافاً عن مسار الجماعة نحو أهدافها وغاياتها، مع أن العمل الدءوب
لإقامة الدولة التي تحكم بما أنزل الله، لم يغب عن باله قط!!
 
 ويعتبر الأستاذ "مصطفى مشهور" بحق مهندسَ فكرةِ التنظيمِ الدوليِّ، وتعميقِ الروابطِ الدعويةِ العالميةِ لجماعات الفكر الوسطيّ الصحيحِ للإسلام.
 
ولقد كان الأستاذ "مصطفى مشهور" زاهدًا، ولم يكن يملك من حطام الدنيا شيئا ذا بال، فلم يمتلك سيارة، وكانت إقامته وأسرتِه بمنزل قديم، أصابه التصدّع بفعل زلزال أكتوبر الذي ضرب القاهرة عام 1992م، فانتقل إلى شقة أخرى صغيرة بشارع جسر السويس.
 
وفي سنة 1945م، تزوج من ابنة عمه "زبيدة عبد الحليم مشهور" التي فاجأها بقوله: إن زوجتي الأولى هي (الدعوة) وأنت الزوجة الثانية، فلا تغاري منها إذا تأخرتُ أو شُغلتُ بسببها عنك، فكان جواب زوجته: وأنا خادمتها.
 
 كانت قضية "سيارة الجيب" أولَ تجربة قاسية يمر بها، عندما سقطت سيارة جيب تابعة للنظام الخاص في يد البوليس، وبها كل الأوراق التي تخص النظام، وكان "مصطفى مشهور" في هذا الوقت من قادة النظام الخاص، وكان ذلك في 5 نوفمبر 1947م، فاعتقل مع إخوانه
وقدموا للمحاكمة، وتمت تبرئتهم في 17 مارس 1951م، وذلك لنبل مقاصدهم وجهودهم في فلسطين، وذلك بعد شهادة مفتي فلسطين، واللواء "المواوي" قائد القوات المصرية في فلسطين واللواء "فؤاد صادق".
 
والطريف في الأمر، أن رئيس المحكمة المستشار "أحمد كامل بك" وكيل محكمة استئناف القاهرة ذكر في حيثيات الحكم الذي نطقت به المحكمة ما يلي: وحيث إنه سبق للمحكمة أن استظهرت كيفيةَ نشأة جماعة "الإخوان المسلمين"، ومسارعةَ فريق كبير مِن الشباب إلى الالتحاق بها، والسير على المبادئ التي رسمها منْشئُها، والتي ترمي إلى تطهير النفوس مما علق بها مِن شوائب، وإنشاء جيل جديد من أفراد مثقفين ثقافة عالية، مشرَبة قلوبهم بحب وطنهم، والتضحية في سبيله بالنفس والمال، وقد كان لا بد لمؤسسي هذه الجماعة لكي يصلوا إلى أغراضهم أن يعرضوا أمام الشباب مثلا أعلى يحتذونه، وقد وجدوا هذا المثل في الدين الإسلامي وقواعده التي رسمها القرآن الكريم، والتي تصلح لكل زمان ومكان، فأثاروا بهذه المُثلِ العواطفَ التي كانت قد خبَت في النفوس، وقضوا على الضعف والاستكانة والتردد، وهي الأمور التي تلازم – عادة – أفراد شعب محتل مغلوب على أمره، وقام هذا النفر من الشباب، يدعو إلى التمسك بقواعد الدين، والسير على تعاليمه، و إحياء أصوله سواء أكان ذلك متصلاً بالعبادات والروحانيات؛ أم بأحكام الدنيا، ولما وجدوا أن العقبة الوحيدة في سبيل إحياء الوعي القومي في هذه الأمة، هو جيش الاحتلال الإنجليزي الذي ظل في هذا البلد قرابة سبعين عاماً ... إلى آخر هذه الحيثيات التي قدمها رئيس المحكمة قبل النطق بالحكم على "مصطفى مشهور" وإخوانه!!
 
 ومن الطريف أن رئيس المحكمة المستشار "أحمد كامل" استقال من القضاء وانضم إلى جماعة الإخوان المسلمين وألف كتابًا يقول فيه: (كنت أحاكمهم.. وأصبحت منهم!!)
 
 وفي سنة 1954 دُبِّر حادثُ المنشية بقصد القضاء على "الإخوان" فألصِقت التهمة بهم، وحُكِم على ستة منهم بالإعدام، وعلى آخرين بالسجن، وكان الأستاذ "مصطفى مشهور" ممن نال حظًّا من السجن ليلقى التعذيب الشديد على أيدي الظالمين.
 
 وفي محاكمة هزلية لم يستغرق التحقيق فيها سوى ثلاث دقائق حُكِم عليه بعشر سنوات أشغال شاقة!!
 
 وفي أغسطس 1965 صدر قرار الطاغية بإعادة اعتقال كلِّ مَن كان معتقلاً سابقًا وأُفرِج عنه، وجاءت عناصر المخابرات لتعتقل "مصطفى مشهور"، ولَمّا يمضِ على الإفراج عنه سوى بضعة أشهر!!
 
 وقد ناله مِن التعذيب نصيبٌ موفورٌ، وهو صابر محتسب، ويدعو إخوانه إلى الصبر والثبات في تلك المحنة التي جاءتهم من موسكو، حيث كان "عبد الناصر" يزور قبر "لينين"، ويعلن عن كشف مؤامرة لقلب نظام حكمه بقيادة "سيد قطب"!!
 
وبقي في السجن حتى هلك "عبد الناصر"، وجاء "السادات" وأمر بالإفراج عن "الإخوان" المعتقلين من أوائل السبعينيات (1971)، وهكذا أمضى الشيخ "مصطفى مشهور" ست عشرة سنة في معتقلات الطواغيت.
 
 سافر إلى ألمانيا إثر اعتقالات في صفوف "الإخوان" زمن السادات، وبقي هناك خمس سنوات، ثم عاد بعد تولي الأستاذ "محمد حامد أبي النصر" مرشدًا عامًّا، حيث اختير نائبًا للمرشد العام.
 
 وعقب وفاة "أبي النصر" يرحمه الله في فبراير 1996م عُيِّن الأستاذ "مصطفى مشهور" مرشداً عامًّا.
 
وكان من مبادئ الأستاذ "مصطفى مشهور" المُضيُّ في طريق الدعوة مهما كانت العقبات، حيث امتزجت هذه الفكرة في شخصه، وتغلغلت
في أعماقه، حتى لقّبه البعض (بالشارح الأول) لمبادئ الإخوان. 
 
وقد احتلت فكرة ضبطِ الدعوةِ بأصولِها ووزْنِها بميزان مبادئِها حيِّزًا كبيرًا في فكره وكتاباته الكثيرة التي تربو على عشرين كتابًا.
 
أمّا رؤيته للتغيير فيجب أن يكون جذريًّا ولو طال زمنه، فالإنجاز وحجم التغيير هما الأساس، والدعاة ليسوا مسئولين عن النتائج بل عن العمل الصحيح، وكان دائمًا يردِّد: (لا نريد لبنائنا أن يقوم ثم ينهار).
 
 ومن أهم أفكاره: "إنّ بناء الذات الإنسانية المسلمة لِرجلِ الدعوة هي أهم وأصعب ميادين البناء؛ لأنّ بناء الرجال أشقّ من بناء المؤسسات".
 
 ومما امتاز به يرحمه الله أنه صاحَبَ المرشِدين السابقين منذ الإمام الشهيد "حسن البنا" رحمه الله حتى استلامه منصبَ المرشدِ العام، فاكتسب بذلك خبراتٍ متنوعةَ؛ حيث إنّ لكل مرحلة خبراتِها وظروفَها، وللسياسات شدتها ولينها، وكيدها وتلوينها، فتعلم من ذلك كلِّه الأناة والمصابرة وسَعة الصدر، والقدرةَ على الاستيعاب، كما فاز بثواب مواصلة الجهود، ومشاركة أولئك القادة في الدعوة والتبليغ.
 
وعندما بويع الأستاذ "عمر التلمساني" رحمه الله تعالى مرشدًا ثالثًا للجماعة؛ كان الشيخ "مصطفى" مِن أقوى أعوانه، وكان يعمل مع لفيف مِن الإخوان الكرام لتأسيس التنظيم وتثبيت أركانه عبر مؤسسات تصمد في وجه الأعاصير.
 
 وقبيل أحداث سبتمبر 1981م التي اعتقَل فيها "الساداتُ" عددًا مِن قيادات القوى السياسية في مصر، سافر الشيخ "مصطفى مشهور" إلى الكويت، وبعد مقتل "السادات"، أدلى بتصريح قال فيه: "ليس لنا أيُّ دور في مقتل "السادات"، فنحن كما قال المرشد الثاني رحمه الله: دعاة لا قضاة، ونحن لم نستعمل القوة والعنف في حياتنا، وسبيلنا إلى الناس دعوتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ومع ذلك اعتقلوا منا بضعة آلاف".
 
 وكان لا يجامل ولا يهادن على حساب الدعوة.
 
وكان مِن القلائل الذين تزعموا- داخل السجون- القطيعة الكاملة مع الطاغية "جمال عبد الناصر"، ورفض أن يرسل له برقية تأييد.
 
 وقد لجأ إلى التحالفات السياسية مع بعض الأحزاب، وخاضت الجماعة الانتخابات البرلمانية والنقابية، وحققت نجاحات كبيرة.
 
 وقد حدد الأستاذ مصطفى مشهور بعض الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها الأخ المسلم الملتزم، ومنها:
 
 * أن يقوم بواجب الشورى.
 
 * أن يلتزم بموقف القيادة الذي تتبناه، وإن خالف رأيه.
 
 * ألا يتأثر بما يثيره البعض من النيل في موقف القيادة.
 
 * الاجتماع على الصواب خير من الافتراق على الأصوب.
 
وكان يرى أنّ البناء يبدأ من الأساس وليس من القمة، وكلما كان البناء ضخمًا كلما احتاج إلى أساس عريض وعميق، والبناء المنشود هو دولة إسلامية عالمية، فلا بد مِن التربية وإيجاد قاعدة صُلبة مِن الأمة ترتضي الحكمَ الإسلاميَّ، وتحميه وتدافع عنه، والزمن في هذا المجال يقاس بعمر الدعوات والأمم، وليس بعمر الأفراد.
 
وفي يوم الثلاثاء التاسع والعشرين مِن شهر أكتوبر سنة 2002م، وبعد يومٍ طبيعيّ قضاه في مكتبه؛ عاد الأستاذ "مصطفى مشهور" إلى منزله، وتناول غداءَه، ثم ذهب إلى فراشه للراحة، وعند أذان العصر صمّم على الذهاب إلى المسجد مع أنه كان متعبًا، فأعانه الله وذهب لتأدية الصلاة مع الجماعة، وحين همَّ بمغادرة المسجد انتابتْه غيبوبةٌ وسقط على الأرض، ونُقِل بعدها إلى المستشفى، حيث قدّر اللهُ أنْ تنتهيَ رحلة العمر، وتنتقل روحه إلى بارئها!.
 
رحِمَه اللهُ رَحمة واسعة، وبوّأه منازل الصدِّيقين والشهداء والصالحين.

أضف تعليقك