تولى المستنصر بالله حكم مصر وهو ابن سبع سنين خلفًا لوالده وهو الخليفة الخامس من خلفاء الدولة العبيدية الفاطمية في مصر والثامن منذ نشأتها بالمغرب.
ظل المستنصر حاكمًا لمصر ما يقرب من ستين سنة؛ حيث تولى الحكم في النصف من شعبان سنة 427هـ /1036م، وأقام بها ستين سنة إلى 487هـ / 1094م، وأشهر أحداث عصره الشدة المستنصرية أو ما يعرف في كتب المؤرخين بـ"الشدة العظمى"، وهي مصطلح يطلق على المجاعة والخراب الذي حل بمصر لمدة سبع سنوات عجاف (457هـ - 464هـ / 1065م - 1071م).
تغلبت أمه على الدولة، فكانت تصطنع الوزراء وتوليهم، ومن استوحشت منه أوعزت بقتله فيقتل؛ ما أثار الفتن وعم الفوضى والاضطرابات، ومنه حل الخراب على الدولة كلها إلى أن سقطت بنفوق الوزراء وضياع هيبة الخليفة، وقد كان سب الصحابة فاشيًا في أيام المستنصر، والسنة غريبة مكتومة.
أحداث الشدة المستنصرية
شاءت الأقدار ألا تقتصر معاناة البلاد على اختلال الإدارة والفوضى السياسية، فجاء نقصان منسوب مياه النيل ليضيف إلى البلاد أزمة عاتية، وتكرر هذا النقصان ليصيب البلاد بكارثة كبرى ومجاعة داهية، امتدت لسبع سنوات متصلة (457هـ - 464هـ / 1065م - 1071م) [*]، وسببها فساد الحكم وكثرة الظلم واضطهاد العلماء ورجال الدين من أهل السنة وضعف الخلافة واختلال أحوال المملكة واستيلاء الأمراء على الدولة، واتصال الفتن، فزادات الغلاء وأعقبه الوباء، حتى تعطلت الأرض عن الزراعة، شمل الخوف وخيفت السبل برًا وبحرًا.
وقد تخلل تلك المجاعة أعمال السلب والنهب وعمت الفوضى، واشتدت تلك المجاعة حتى لم يجد فيها الناس شيئًا يأكلونه فأكلوا الميتة والبغال والحمير، وبيع رغيف الخبز الواحد بخمسين دينارًا.
وذكر ابن إياس من العجائب التي لا يصدقها عقل زمن تلك المجاعة، ومنها: أن الناس أكلوا الكلاب والقطط، وكان ثمن الكلب الواحد خمسة دنانير والقط ثلاثة، وقيل: كان الكلب يدخل البيت فيأكل الطفل الصغير وأبواه ينظران إليه فلا يستطيعان النهوض لدفعه عن ولدهما من شدة الجوع والضعف، ثم اشتد الأمر حتى صار الرجل يأخذ ابن جاره ويذبحه ويأكله ولا ينكر ذلك عليه أحد من الناس، وصار الناس في الطرقات إذا قوي القوى على الضعيف يذبحه ويأكله.
وذكر كذلك أن طائفة من الناس جلسوا فوق أسقف البيوت وصنعوا الخطاطيف والكلاليب لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح، فإذا صار عندهم ذبحوه في الحال وأكلوه.
ويروي إياس أن وزير البلاد لم يكن يمتلك سوى بغل واحد يركبه، فعهد بالبغل إلى غلام ليحرسه، إلا أن الغلام من شدة جوعه كان ضعيفًا فلم يستطع أن يواجه اللصوص الذين سرقوا البغل، وعندما علم الوزير بسرقة بغله غضب غضبًا شديدًا، وتمكن من القبض على اللصوص، وقام بشنقهم على شجرة، وعندما استيقظ الصباح وجد عظام اللصوص فقط؛ لأن الناس من شدة جوعهم أكلوا لحومهم.
وقيل: إنه كان بمصر حارة تعرف بحارة الطبق، وهي معروفة بمدينة الفسطاط، كان فيها عشرون دارًا، كل دار تساوي ألف دينار، فبيعت كلها بطبق خبز، كل دار برغيف، فسميت من يومئذ بحارة الطبق.
وذكر ابن الأثير أنه اشتد الغلاء، حتى حكي أن امرأة أكلت رغيفًا بألف دينار، وباعت عروضًا تساوي ألف دينار بثلاث مائة دينار، فاشترت بها جوالاً من القمح، فانتهبه الناس، فنهبت هي منه، فحصل لها ما خبز رغيفًا.
وذكر سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان أن امرأة خرجت ومعها قدر ربع جوهر من اللؤلؤ، فقالت من يأخذ مني هذا الجوهر ويعطيني عوضه قمحًا؟! فلم تجد من يأخذه منها. فقالت: إذا لم تنفعني وقت الضائقة فلا حاجة لي بك، وألقته على الأرض وانصرفت. فالعجب أن ظل اللؤلؤ مرميًا على الأرض ثلاثة أيام ولم يوجد من يلتقطه!!.
ويروي المقريزي أن سيدة غنية من نساء القاهرة آلمها صياح أطفالها الصغار وهم يبكون من الجوع فلجأت إلى شكمجية حليها وأخذت تقلب ما فيها من مجوهرات ومصوغات ثم تتحسر لأنها تمتلك ثروة طائلة ولا تستطيع شراء رغيف واحد. فاختارت عقدًا ثمينًا من اللؤلؤ تزيد قيمته على ألف دينار، وخرجت تطوف أسواق القاهرة والفسطاط فلا تجد من يشتريه.
وأخيرًا استطاعت أن تقنع أحد التجار بشرائه مقابل كيس من الدقيق، واستأجرت بعض الحمالين لنقل الكيس إلى بيتها، ولكن لم تكد تخطو بضع خطوات حتى هاجمته جحافل الجياع، فاغتصبوا الدقيق، وعندئذ لم تجد مفرًا من أن تزاحمهم حتى اختطفت لنفسها حفنة من الدقيق وحزنت لما حدث من الجماهير الجائعة، فعكفت على عجن حفنة الدقيق وصنعت منها أقراصًا صغيرة وخبزتها ثم أخفتها فى طيات ثوبها، وانطلقت إلى الشارع صائحة: الجوع الجوع. الخبز الخبز. والتفت حولها الرجال والنساء والأطفال وسارت معهم إلى قصر الخليفة المستنصر، ووقفت على مصطبة ثم أخرجت قرصًا من طيات ثوبها ولوحت به وهي تصيح: "أيها الناس، فلتعلموا أن هذه القرصة كلفتني ألف دينار، فادعوا معي لمولاي المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه، وأعاد عليهم بركات حسن نظره، حتى تقومت عليَّ هذه القرصة بألف دينار!!".
وقُبض على رجل كان يقتل النساء والصبيان ويبيع لحومهم ويدفن رءوسهم وأطرافهم، فقُتل، واشتد الغلاء والوباء حتى إن أهل البيت كانوا يموتون في ليلة واحدة، وكان يموت كل يوم على الأقل ألف نفس، ثم ارتفع العدد إلى عشرة آلاف وفي يوم مات ثمانية عشر ألفًا.
وحكي أن المستنصر أخرج جميع ما في الذخائر فباعها، ويقال إنه باع في هذا الغلاء ثمانين ألف قطعة من أنواع الجواهر المثمنة وخمسة وسبعين ألف قطعة من أنواع الديباج المذهب وعشرين ألف سيف وأحد عشر ألف دار، وافتقر الخليفة المستنصر حتى لم يبق له إلا سجادة تحته وقبقاب في رجله.
وكان المستنصر في هذه الشدة يركب وحده، وكل من معه من الخواص مترجلون ليس لهم دواب يركبونها، وكانوا إذا مشوا تساقطوا في الطرقات من الجوع، وكان المستنصر يستعير من ابن هبة صاحب ديوان الإنشاء بغلته ليركبها صاحب مظلته، وآخر الأمر توجهت أم المستنصر وبناته إلى بغداد من فرط الجوع، وذلك في سنة 462هـ، وتفرق أهل مصر في البلاد وتشتتوا، وفني ثلث أهل مصر، وقيل إنه مات مليون وستمائة ألف نفس، ونزل الجند لزراعة الأرض بعد أن هلك الفلاحون.
وقال ابن دحية في كتاب النبراس: "وخرّبت القطائع التي لأحمد بن طولون في الشدة العظمى زمن الخليفة المستنصر العبيدي أيام القحط والغلاء المفرط الذي كان بالديار المصرية، وهلك من كان فيها من السكان، وكانت نيفًا على مائة ألف دار"، وخربت كذلك مدينة الفسطاط حتى كانت خرابًا.
وكان من نتيجة هذه الأزمة العاتية أن أخذت دولة المستنصر بالله في التداعي والسقوط.
وظل المستنصر حاكمًا لمصر متمسكًا بالسلطان، رغم أنه وصف في ذلك الوقت بأنه كان أقرب إلى المحجور عليه، وآلت به شدائد عظيمة، وفقد القوت فلم يقدر عليه، حتى كانت امرأة من الأشراف تتصدق عليه في كل يوم بقعب فيه فتيت، فلا يأكل سواه مرة في كل يوم، وظل كذلك إلى أن توفي في 18من ذي الحجة سنة 487هـ.
تذكرتها عبرة من التاريخ وأنا أقرأ عبارة ابن خلدون "واعلموا أن الظلم مؤذن بخراب العمران" ثم أنظر إلى حال مصر وقد عم بها الظلم واستشرى بها الفساد راجيًا من الله تعالى السلامة وأن يهلك بعزته وقوته الظالم وأعوانه ويكشف بقدرته الغمة ويجمع برحمته شمل الأمة من غير فتنة ولامضرة.
أضف تعليقك