أزمة نفسية عنيفة يعيشها القضاة وأعضاء النيابة الذين أصدروا أحكاماً جائرة وقرارات حبس ظالمة في حق أبناء الثورة، وتتفاقم هذه الأزمة كلما دعت أي جهة إلى فعالية ثورية، والحقيقة أن الأزمة النفسية التي تسيطر على هؤلاء القضاة وأعضاء النيابة لها ما يبررها، فمثلاً لو قمنا بعمل مقارنة بين الضابط الذين اعتقلوا أبرياء وعذبوهم، فنجد أن هؤلاء الضباط كثيراً ما يتخذون من إجراءات الحيطة والحذر ما يجعل أشخاصهم غير معروفة لهؤلاء الأبرياء الذين اعتدوا عليهم بأي صورة كانت، فمن تغمية الأعين أثناء التحقيق، إلى الحديث بين الضباط بأسماء حركية، إلى كل وسائل التخفي التي يتبعها الضباط أثناء مباشرة إجراءاتهم، أو إن شئت فقُل أثناء مباشرة جرائمهم.
لكن القضاة وأعضاء النيابة موقفهم يختلف بالكلية عن الضباط؛ لأنهم مضطرون إلى التعامل بصورة مباشرة مع الثوار ومواجهتهم وجهاً لوجه، سواء أثناء التحقيق أو أثناء المحاكمات، والاستماع إلى دفاعهم ومرافعتهم، ثم التوقيع على القرارات والأحكام بأسمائهم الحقيقية.
لذلك فإن الكثير من القضاة وأعضاء النيابة أصبح لديهم كابوس مزعج اسمه الثورة، ولكن هذه الحالة قد تفاقمت مع عدد من القضاة الذين تصدوا إلى ما عرف بدوائر الإرهاب، فالبعض منهم قد أصدر أحكاماً بالإعدام، ومنها ما تم تنفيذه، ومنها ما زال متداولاً أمام دوائر أخرى بعد الطعن على هذه الأحكام.
وقد يتعجب القارئ عندما يعلم إلى أي مدى قد سيطر الرعب على هؤلاء والقصص هنا ليست للسخرية أو التسلية، ولكن لها قيمة وهدف، فمن هؤلاء القضاة قاضٍ يسكن في مدينة المنصورة ظل يراقب إحدى العبوات المعدنية أسفل مسكنه، ثم أجرى اتصالاً هاتفياً بمسؤول قسم المفرقعات بمديرية أمن الدقهلية، وأبلغه باشتباهه في وجود عبوة ناسفة أسفل مسكنه، وبالفعل تحركت قوة من مديرية الأمن إلى مسكن سعادة المستشار الذي أشار لهم إلى العبوة التي يشتبه بها، وهنا طلب خبير المفرقعات من المستشار وبقية القوة المرافقة أن يتراجعوا، ثم تقدم خبير المفرقعات الذي يرتدي الزي الواقي من الانفجار نحو العبوة، ثم أمسك بها فوجدها علبة معدنية فارغة لسمك مجفف، وبداخلها قطعة خشبية، وهنا لم يتمالك الضابط قائد المأمورية نفسه، وبدأ في الانفعال على سيادة المستشار، فكان من بين ما قاله له: "طالما انتم مرعوبين كده شغالين الشغلانة دي ليه؟".
لم تكن هذه هي الحالة الأولى أو الأخيرة التي فضحت الرعب الذي يعيشه قضاة ما عرف بدوائر الإرهاب، فهذا قاضٍ آخر يسكن في مدينة الزقازيق ومع مطلع العام الدراسي الحالي وجد ابنته الصغيرة مطلوباً منها بعض الأشياء الخاصة بالمدرسة (كراسات وأغلفة للكراسات وأقلام.. إلخ) وهنا وجد سعادة المستشار نفسه مضطراً للخروج والسير بين الناس مع ابنته!
فلم يأخذ وقتاً في التفكير وقام بالاتصال بمأمور قسم ثان الزقازيق، الذي يقع في دائرة مسكنه فعرف المأمور بنفسه وأبلغه بالأمر، وأنه يحتاج إلى سيارة شرطة بها قوة مسلحة للانتقال معه إلى إحدى المكتبات حتى يتمكن من شراء المستلزمات المدرسية الخاصة بابنته، وبمنتهى الأدب رفض المأمور طلب سعادة المستشار الذي ألح في طلبه وأبلغه بأنه قاضٍ في دوائر الإرهاب، وأنه يخشى أن يكون متابعاً من أحد فينتهز هذه الفرصة ويقوم بتصفيته.
وهنا اضطر المأمور إلى إعطاء سعادة المستشار رقم هاتف مدير أمن الشرقية، وأبلغه أن يطلب منه مباشرة هذا الطلب، وبالفعل اتصل سعادة المستشار بالسيد مدير الأمن، وحكى له أزمة الأقلام والكراسات الخاصة بابنته، فأبلغه مدير الأمن بأن يتصل مرة أخرى بالمأمور وسيصدر له التعليمات بخصوص هذا الأمر، وبعدها اتصل المستشار بالمأمور فلم يرد عليه، فعاد واتصل بمدير الأمن فلم يرد عليه، مرت الساعات ولا أحد يرد على معالي المستشار، وابنته تلح عليه؛ لأنها في حاجة للكراسات وبقية الأدوات المدرسية، فاضطر للخروج مع ابنته وهو في قمة الهلع والرعب يرتدي أسفل ملابسه قميصاً واقياً من الرصاص، ويتلفت يميناً يساراً، ويخشى من كل إنسان يمر إلى جواره أو إلى جوار ابنته، ويتعجل في كل شيء حتى أتم عملية شراء الكراسات والأقلام بنجاح.
المواقف على رعب القضاة من الثورة كثيرة جداً، ولا يسعها هذا المقال، ولكني لا أقص عليكم هذه المواقف من باب الفكاهة أو التندر، ولكن لكي يعلم الثوار أن ثورتهم لها رهبة في نفوس أعداء هذه الثورة، وهذه الرهبة أكثر بكثير مما يظن الثوار أنفسهم، ولكن السؤال المهم هنا هو: هل قام الثوار فعلاً بامتلاك الأسباب التي تحفظ للثورة هيبتها في نفوس أعدائها؟
أظن أن الثورة ما زال أمامها الكثير والكثير للحفاظ على توازن الرعب بين صفوف الثوار وصفوف أعداء الثورة.
أضف تعليقك