بعد انتهاء يوم 11/11 في مصر بحلوه ومره، من واجبنا أن نتدارس الموقف، وأن نعيد قراءة المشهد، ونراجع الخطط والاحتمالات، بهدف تصويب المسار، والتقدم للأمام نحو إنهاء حكم العسكر واسترداد الحكم المدني الذي أنتجته ثورة 25 يناير 2011.
لا يمكن التساوق مع إعلام النظام وأبواقه التي حكمت على اليوم بالفشل حتى قبل أن يبدأ فقد كانت تلك أمانيهم، وكانت تلك ترتيباتهم في كل الأحوال، كما لا يمكن الادعاء بأن اليوم حقق أهدافه، فتلك أماني من دعوا إليه، لكنها ليست الواقع بحال، لكننا لا يمكن أيضا أن نعتبر اليوم يوما عاديا مثل غيره من الأيام، ولا مظاهراته عادية مثل غيرها من المظاهرات التي سبقتها.
لقد خرجت الدعوة لذلك اليوم منذ منتصف أغسطس الماضي من خلال بعض الشباب الثوري الذين لا ينتمون لأي تنظيم سياسي أو ثوري، وحاول النظام الحاكم إلصاق الدعوة بجماعة الإخوان كالعادة؛ حتى يجد أمامه خصما واضحا يسدد سهامه نحوه، وفي الوقت نفسه، خرجت العديد من الأصوات تتهم المخابرات بالوقوف خلف تلك الدعوة؛ بهدف إفراغها من معناها، مع تأكدها من عدم خروج الغلابة للدفاع عن قضيتهم؛ بسبب حالة الرعب التي فرضها النظام على الجميع.
هكذا جاءت الطعنات للدعوة من جميع الجهات، وساهم كل ذلك في انتشارها ووصولها إلى كل بيت تقريبا، خاصة بعد دخول الأذرع الإعلامية لسلطة الانقلاب على الخط، وحديثها الذي لم ينقطع عن تلك الدعوة، لكن ربما كانت الحقيقة الأولى التي ظهرت بعد انتهاء ذلك اليوم هي أن انتشار الدعوى ووصولها إلى كل بيت لا يعني تلقائيا الاستجابة لها، فقد وصلت الدعوة مشوهة، ووصل معها المصير المحتوم لمن تسول له نفسه المشاركة فيها.
وكما كان تعامل القوى السياسية التقليدية مع الدعوات التي سبقت ثورة 25 يناير 2011، والتي تحفظت جميعها على تلك الدعوات؛ بحجة أنها جاءت من جهات مجهولة، فقد حدث شيء من ذلك مع دعوات ما وصف بثورة الغلابة، خاصة من القوى المدنية التقليدية باستثناء حزب غد الثورة وبعض الشخصيات المستقلة، فيما تعامل التيار الإسلامي -وفي القلب منه جماعة الإخوان- بقدر أكبر من الإيجابية مع تلك الدعوة، رغم تحفظهم على "مجهوليتها"، وقد كانت الفكرة الحاكمة لقرارهم هي اتجاه السهم وليس اليد التي تمسكه.
وبما أن تلك المظاهرات كانت موجهة ضد سلطة الانقلاب، فهي تصب في الهدف ذاته الذي لم تتوقف تلك القوى الإسلامية عن التصدي له خلال السنوات الثلاث الماضية، ومن هنا جاء بيان الإخوان داعما لأي حراك يناهض الانقلاب دون توصيفه بـ"ثورة غلابة" أو غيره من الأوصاف، وهو ما تكرر في بيان حزب البناء والتنمية، وبينما غابت القوى المدنية عن حراك 11 نوفمبر، فقد نزلت مظاهرات الإخوان في 15 محافظة، وهو ما ستر عورة ذلك اليوم، وأفسد خطة سلطة الانقلاب التي كانت تستهدف منع أي مظاهرة ولو ضمت 3 أفراد فقط، ولذا كثفت تواجدها الأمني في الميادين الرئيسية، وكل النقاط التي توقعت احتضانها للمظاهرات، وقد حدثت اشتباكات بالفعل في العديد من الأماكن بين الشرطة والمتظاهرين، وهو ما ميز تلك المظاهرات -رغم أنها من تنظيم الإخوان- عن سابقاتها من مظاهرات نظمتها الجماعة نفسها، وكانت تنتهي دوما بعيدا عن عيون الأمن.
وكان من الملاحظ أيضا التزام غالبية المظاهرات بالشعارات التي وجه إليها الداعون ليوم الغلابة، وحمل أعلام مصر بديلا لشارات رابعة وصور الرئيس مرسي ( وإن ظهرت رابعة ومرسي في بعض المظاهرات الأخرى).
لقد كشف ذلك اليوم أن الإخوان هم القوة المنظمة الوحيدة القادرة على الحشد حتى الآن في الشارع، رغم كل الضربات التي تعرضت لها على مدار السنوات الثلاث الماضية، وعلى الرغم مما أصاب الجماعة من مشاكل إدارية داخلية، وبالتالي فليس من المتصور النجاح لأي عمل ثوري يتجاهل الإخوان أو يقلل من دورهم، ولكن في الوقت نفسه ورغم نزول مظاهرات الإخوان وبصورة أفضل نسبيا من سابقاتها، إلا أنها أيضا لن تكون قادرة بمفردها على إسقاط الحكم العسكري، وبالتالي، فالحاجة لا تزال ماسة لشراكة ثورية حقيقية تدفع كل فئات الشعب لمواجهة النظام القمعي الانقلابي.
هل حقا الغلابة لا يثورون؟ لقد ظهرت تلك المقولة على نطاق واسع مع صدمة أصحابها من غياب الغلابة عن مظاهرات يوم 11 نوفمبر، وهي مقولة تعبر عن حالة غضب وصدمة أكثر من تعبيرها عن الحقيقة، فقد خرج الغلابة في 18 و19 يناير 1977 بعد قرار رئيس الحكومة بزيادة أسعار الخبز وبعض السلع تلبية لمطالب صندوق النقد الدولي أيضا، وعمت تلك المظاهرات ربوع مصر، وشارك فيها العمال في مصانعهم والطلاب في جامعاتهم، وعموم المواطنين في الشوارع، وقد وصفها الحاكم العسكري أنور السادات بانتفاضة الحرامية، لكنه اضطر للتراجع عن قرار زيادة الأسعار لتهدئة الشارع فعلا.
ورغم تشابه الوضع الاقتصادي وتأثيراته على الغلابة في 1977 و2016 ووجود عامل مشترك بينهما وهو رفع الأسعار وإلغاء الدعم تلبية لمطالب صندوق النقد إلا أن الغلابة ثاروا ضد تلك القرارات في 1977 ولم يثوروا في 2016 رغم أن الضرر أكبر بكثير، والسبب في تقديري يرجع لتشويه الدعوة لمظاهرات ثورة الغلابة، ووقوعها وسط حالة استقطاب سياسي حاد لم تكن قائمة في عام 1977، وكذا محاصرتها بتهديدات أمنية مرعبة لم تكن قائمة أيضا عام 1977، كما أن الدعوة لمظاهرات ثورة الخبز عام 1977 انطلقت من الداخل المصري وبحضور قيادات ميدانية موجودة على الأرض وسط العمال والطلاب وعموم الشعب، وإن غلبت عليها التنظيمات الشيوعية، بينما ظهرت الدعوة لثورة الغلابة في 2016 من خارج مصر، حتى وإن كان لها نشطاء في الداخل، ولعل هذا درس كبير للمعارضة المصرية في الخارج، فهي مجرد داعم للحراك في الداخل وليست قائدة له.
هل يمثل يوم 11 نوفمبر انتكاسة أم مكسبا لمسيرة استعادة ثورة يناير؟ في تقديري إن ذلك اليوم مثل موجة ثورية جديدة في مسيرة مقاومة الانقلاب المستمرة منذ 3 سنوات، والسعي لاسترداد المسار الديمقراطي رغم أن المشاركة الشعبية فيه كانت مخيبة لكثير من الآمال، ذلك أن المظاهرات التي خرجت في مواقع متفرقة في 15 محافظة أثبتت أن الثورة مستمرة، وأنها لا تزال قادرة على الصمود وإرباك وإفشال سلطة الانقلاب، ورغم أن قادة النظام ومنهم رئيس الحكومة شريف إسماعيل حاولوا تصوير الأمر بحسبانه رضا شعبيا عن أداء الحكومة وانحيازا شعبيا للاستقرار، إلا أن منظر الحشود العسكرية والأمنية في شوارع مصر كفيل بـ" تطفيش" أي مستثمر محتمل، وأي سائح محتمل، وهو ما يزيد من أعباء النظام.
صحيح أن النظام سيستثمر ذلك الغياب للتأكيد للمؤسسات الدولية على استقراره، وطمأنتها لعدم حدوث أي ردات فعل اجتماعية تهدد التزامات الحكومة تجاه صندوق النقد الدولي، كما أنه سيستثمر ذلك لفرض المزيد من القرارات والسياسات القاتلة للغلابة، لكن الصحيح أيضا أن الـ12 مليار دولار التي وافق الصندوق على منحها لمصر لن تغني ولن تسمن من جوع، ولن تكون أكثر نجاعة من الخمسين مليار دولار التي تلقاها النظام من الخليج عبر السنوات الثلاث الماضية، والتي لم يظهر لها أي أثر إيجابي على معيشة المواطن المصري، كما أن هذا النظام لن يشعر يوما باستقرار حقيقي، وأن المقاومة له لن تتوقف إلا بسقوطه حتى لو غاب عنها الغلابة.
أضف تعليقك