• الصلاة القادمة

    الفجر 04:23

 
news Image
منذ ثانية واحدة

استباحة العالم العربى تدق أجراسا تنبه الجميع إلى ضرورة وضع حد للكارثة.

(١)
من أخبار الأسبوع الماضى أن روسيا أكدت رسميا أنها بصدد استئناف الضربات الجوية حول حلب، ونقلت وكالة «إنترفاكس» عن مصدر فى وزارة الدفاع الروسية قوله إن غواصات تابعة لحلف شمال الأطلسى تعقبت مجموعتها القتالية فى البحر المتوسط، وأن سفنا حربية روسية طاردت غواصة هولندية قامت بمناورات خطيرة بالقرب منها. وكانت موسكو قد حشدت مجموعة قتالية كبيرة فى البحر المتوسط تضم حاملة الطائرات الوحيدة لديها بهدف دعم حملتها الجوية فى سوريا.
خلال الأسبوع ذاته بثت وكالة «رويترز» تقريرا عن المرتزقة الروس الذين يقاتلون فى سوريا لحساب نظام الرئيس الأسد. وقالت إن هؤلاء المرتزقة تجندهم شركة خاصة، وينقلون إلى سوريا على متن طائرات عسكرية روسية تهبط فى قواعد سوريا، وإنهم يلعبون دورا أهم بكثير فى القتال على الأرض من الدور الذى يقول الكرملين أن الجيش النظامى الروسى يقوم به فى سوريا.
فى نشرة أخبار الأسبوع أيضا أن بريطانيا أرسلت مدمرة عسكرية متطورة إلى السواحل اليمنية لمواجهة التهديدات التى تواجه الملاحة الدولية فى المنطقة هناك، خصوصا فى باب المندب. أذاعت الخبر صحيفة «التايمز» التى ذكرت أن أكثر المدمرات البريطانية تطورا (إم إتش إس داينج) ستقوم بحماية المصالح البريطانية فى المنطقة من الصواريخ الإيرانية. وستشارك فى عمليات عسكرية مع التحالف الدولى لمكافحة داعش فى وقت لاحق من الشهر الحالى.
فى النشرة ذاتها أن لقاء استغرق ٤ ساعات ونصف الساعة عقد فى أنقرة بين رئيس هيئة الأركان التركى خلوصى أكار ونظيره الأمريكى جوزيف دانفورد (هو الثانى بينهما فى أقل من شهر) تم فيه تعزيز التنسيق القائم بين تركيا والتحالف الدولى الذى يستهدف القضاء على داعش. وصرح وانفورد بعد اللقاء أنه اتفق مع الأتراك على كيفية تخليص الرقة من داعش، وطريقة إدارة المحافظة بعد تحريرها.
فى ذيل النشرة خبر عن تعزيز القوات الأمريكية فى العراق استعدادا لحسم معركة الموصل، وآخر عن تسرب تسجيل لإحدى الطائرات العسكرية الأمريكية مع إحدى القواعد العسكرية فى ليبيا أوصى باشتراك الأمريكيين فى الصراع الدائرك هناك لصالح الفريق حفتر، الذى تدير أنشطته العسكرية غرفة عمليات يشرف عليها الفرنسيون.

(٢)
خلاصة النشرة أن الجميع يتحركون فى الفضاء العربى ويرتبون مستقبل الأمة فى غياب شبه كامل لأى دور عربى. للدقة فإن ذلك الدور الأخير بات مقصورا على الحروب الأهلية فى داخل قطر عربى، أو بين التحالفات المتباينة فى المحيط العربى ذلك أن العرب يحاربون بعضهم البعض فى سوريا والعراق واليمن وليبيا ولبنان، كما أنهم يتحاربون داخل كل قطر فى صراع الهويات الطائفية والعرقية والقبلية فضلا عن السياسية.
يعيد المشهد إلى الأذهان وضعا أسوأ مما كانت عليه المنطقة فى أعقاب الحربين العالميتين، حين ظهر بعد الحرب الأولى نظام الانتداب الذى قررته عصبة الأمم، وهو الذى تطور إلى نظام الوصاية فى أعقاب الحرب الثانية. أقول أسوأ لأن شعوب المنطقة كانت تحت الاحتلال آنذاك، ومن ثم فقد كان العدو المتمثل فى سلطة الاحتلال واضحا. وكان الاحتشاد فى مواجهته مبررا ومطلوبا. إلا أن الوضع الراهن قلب الآية رأسا على عقب. إذ أصبح الاحتلال مرغوبا وصار الاقتتال داخل البيت العربى الكبير من أبرز سمات المرحلة.
الرمز الواضح الدال على ذلك جسدته واقعة الاحتفال الرسمى ــ وسط صمت عربى مطبق ــ بإقامة قاعدة عسكرية بريطانية دائمة فى البحرين عام ٢٠١٤، أى بعد ٤٣ عاما من إغلاق القاعدة البحرية البريطانية (فى عام ١٩٧١)، وهو ما اعتبر إعلانا عن أفول مرحلة الاستعمار التقليدى. إذ سمح الاتفاق الذى وقعه وزيرا الخارجية فى البلدين بعودة البحرية البريطانية إلى الخليج فى القاعدة الضخمة. على الرغم من أن ثمة قاعدة أمريكية فى البحرين تتمركز فيها قيادة الأسطول الخامس، وأن فرنسا أقامت فى دولة الإمارات أول قاعدة عسكرية لها خارج أفريقيا، كما أن القواعد الأمريكية منتشرة فى أنحاء الخليج، إلا أن الاحتفال الرسمى بالقاعدة البريطانية فى البحرين كانت له دلالة متميزة. خاصة إذا علمنا أن البحرين قامت بدفع ٨٠٪ من تكلفة المشروع التى بلغت ٢٣ مليون دولار. ذلك أن الاتفاق اعتبر انتقالا من عصر مقاومة الاستعمار الغربى الذى بلغ ذروته فى منتصف القرن العشرين، إلى عصر التصالح معه والترحيب به فى بدايات القرن الواحد والعشرين.

(٣)
ثمة حجة تقليدية تساق فى معرض تبرير الوهن الذى أصاب العالم العربى، تتلخص فى أن الغرب الطامع فى المنطقة سواء لموقعها الاستراتيجى طورا أو لثروتها ونفطها فى طور آخر لم يرد لها أن تنهض وحرص على إضعافها طول الوقت. وهى مقولة صحيحة نسبيا، تؤيدها تجربة الدول الكبرى مع محمد على باشا والى مصر وحاكمها فى القرن التاسع عشر. ذلك أن الإصلاحات التى قام بها فى مختلف المجالات خصوصا العسكرية، أزعجت تلك القوى آنذاك، فتم تدمير أسطوله من ناحية وأرغم على تحجيم قوته والخضوع للسلطان العثمانى من ناحية أخرى، وتم ذلك فى عام ١٨٤٠ بمقتضى معاهدة لندن (وقعتها إنجلترا وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا) ــ آنذاك حوصرت السواحل المصرية وألزم بإخلاء كريت والحجاز وأضنة، ومن أهم ما نصت عليه المعاهدة أنها اعتبرت جيشه جزءا من الجيش العثمانى، وفرضت عليه ألا ينشىءسفنا حربية إلا بموافقة السلطان. وهددت باستخدام القوة إذا لم يقبل بذلك.
على الرغم من أن المقولة صحيحة من الناحية التاريخية فإنه يعيبها أنها تلغى دور الإرادة الوطنية، وتسلم بأن المصير يصنعه الآخرون ويقررونه. ذلك أن القوى الكبرى تبنت موقفا يخدم مصالحها، ولا يتوقع منها أن تسهم فى النهوض بالأقطار التى احتلتها. وما فعلته تلك القوى مع محمد على فى مصر تكرر مع الهند والصين مثلا. إذ فى نفس العام الذى أبرمت فيه معاهدة لندن (عام ١٨٤٠) كانت بريطانيا تشن على الصين حرب الأفيون التى استهدفت تركيعها. وهى الحرب الشرسة التى وصفها المؤرخ البريطانى توماس أرنولد بقوله إنه لم يحدث فى التاريخ أن شنت دولة على أخرى مثل ذلك القدر من الظلم والخسة الذى أنزلته بريطانيا بحق الصينيين. أما فظائع البريطانيين فى الهند فهى لا تعد ولا تحصى. مع ذلك فقد نهض البلدان على النحو الذى نشهده. بعدما توافرت لهما الإرادة الوطنية التى حققت الطموح المنشود.

(٤)
فى تحرير الواقع العربى الراهن وتفسير الاستباحة التى يعانى منها العالم العربى، فإننا لا نستطيع أن نشير إذن إلى «المعامل الاستعمارى» الذى تحدث عنه مالك بن نبى فى كتابه «شروط النهضة»، وإن كنا نرى وجاهة فى استخدام مصطلح «القابلية للاستعمار» الذى نحته وأطلقه قبل أكثر من ستين عاما. إلا أننا نجد فى كتاب «مفهوم الدولة» للمفكر المغربى عبدالله العروى إضاءات تساعدنا على تشخيص الأزمة التى نواجهها. ذلك أنه أشار إلى أن العالم العربى أقام فى مرحلة ما بعد الاستقلال الدولة السلطانية وليس الدولة الديمقراطية، واجتمعت فى الدولة الجديدة صفات التسلط والقهر والسطو والاستغلال، واستشهد فى هذا السياق بمقولة المؤرخ والباحث التونسى الدكتور هشام جعيط التى قرر فيها أن الدولة العربية الحديثة مازالت لا عقلانية واهنة، وبالتالى فهى عنيفة ومرتكزة على العصبيات والعلاقات العشائرية. تحدث العروى أيضا عن «الدولة الإيجابية» التى تكون فى خدمة المجتمع، مشيرا إلى أن التركيز على تقوية الدولة باستمرار دليل على أنها ضعيفة باستمرار، معتبرا أن المحك الحقيقى لصلابة أى دولة يكمن فى علاقتها بالخارج. استشهد فى ذلك بمقولة هيجل التى قرر فيها أن ألمانيا لم تكن موجودة كدولة فى بداية القرن الماضى، لأن صوتها لم يكن مسموعا فى الجوقة الأوروبية.
أضيف إلى ما سبق أن العالم العربى فى مرحلة ما بعد الاستعمار أقام أنظمة وليس دولا. ذلك أن الدولة فى المفهوم القانونى هى ظاهرة اجتماعية نشأت بمقتضاها كيانات ذات سيادة تعيش فى ظلها مجموعات من الناس، يخضعون لنظام سياسى يدير شأنها العام، وهو ما يعنى أن النظام السياسى هو أحد عناصر الدولة وليس كلها. وهو ليس الحكومة وحدها ولكن إدارة الدولة تتم من خلال المؤسسات الموازية المستقلة ومنظمات المجتمع المدنى.
ما حدث فى العالم العربى أن الدولة اختزلت فى النظام الذى همش المجتمع وفصل القانون على النحو الذى يناسبه. واعتمد فى إدارته للشأن العام على أجهزة الشرطة والجيش والمحاكم والجباية بما يعنى أننا أقمنا شكل الدولة دون وظيفتها فى خدمة المجتمع وإقامة العدل، وعندما صارت كذلك فإنها أصبحت أقرب إلى الدولة الفاسدة كما يقول العروى. أو «دولة على سبيل المجاز»، على حد تعبير الكاتب الفلسطينى أسامة مصالحة الذى كتب مقالة تحت هذا العنوان نشرته صحيفة «الحياة» اللندنية فى ٢٨/١٠. أفضى بنا ذلك إلى الوضع المختل الذى صرنا إليه. وهو ما لخصه الكاتب السورى موريس عايق فى مقالة نشرت تحت عنوان: إرث الطغيان: من القابلية للاستعمار إلى الحاجة إليه (الحياة ١٤/١٠) إذ ختمه بقوله إنه بفضل الطغيان الذى استثمر اسوأ ما فينا، فإننا لم نعد قادرين على الحوار والاتفاق فيما بيننا وعاجزين عن حل خلافاتنا، فصار من الضرورى انتزاع القرار من أيدينا ووضعه فى يد خارجية تملك قوة الإلزام والمعاقبة، ما يعنى التخلى عن الكثير من حقوقنا وما نعتبره جزءا من سيادتنا. من ثم فإن إرث الطغيان لم يجعلنا فقط قابلين للاستعمار، ولكن فى حاجة إليه لوقف المذبحة ــ والله أعلم.

أضف تعليقك